التصنيف: فسحة رمضان

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -14- .. ابن سينا مبتكر الفحص الإكلينيكي الطبي

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -14- .. ابن سينا مبتكر الفحص الإكلينيكي الطبي

    أكادير24 | Agadir24

    استهواه علم الطب منذ صغره، وتمكن من وضع أسس علمية للطب التجريبي، واخترع كثيرا من الأدوية من الأعشاب وغيرها. كان يقوم بتجريب الأدوية أولا على الحيوانات، وحين يتوصل إلى أنها أثبتت فعاليتها، وتأثيرها على المرض عند الحيوانات، يقوم بتجريبها على الإنسان ويدون تأثيرها على الأمراض المختلفة. وبذلك يكون ابن سينا أول من وضع هذا النظام في العالم. كان حريصا على الكشف والفحص الطبي لجسم الإنسان منذ القرن 11، وهي الطريقة المعروفة في وقتنا الراهن بالفحص الإكلينيكي.

    لقد شكل كتاب ابن سيا “القانون في الطب” ذروة المعرفة الطبية في عصره. تحدث فيه عن التشريح والجراحة والأدوية، وهي المعارف الطبية التي ظلت سارية لعقود، واستفاد منها الأطباء في عصر النهضة التي عرفتها أوروبا. كان ابن سينا يستخدم بعض الأعشاب كالخزامى مثلا لمقاومة بعض الأمراض المرتبطة بالباكتيريا رغم عدم علم أطباء عصره بالباكتيريا. وما زالت الأعشاب التي وصفها ابن سينا في كتابه “القانون في الطب” تُستعمل في عصرنا الحالي، كما أنها تشكل مرجعا في الكثير من العلاجات.

    قوة ابن سينا الطبية تكمن في تدوينه لكل الحالات المرضية وتفصيل تشخيص المرض، وهو ما جعله يتفوق في تشخيص مرض الصَّرَع وهبوط ضغط الدم المفاجئ، ويُعتبر أول من اكتشف الطفيلية المعروفة بالدودة المستديرة. شخَّص كذلك ابن سينا الحزام الناري أو “النار الفارسية”. وقمة ابتكار ابن سينا هو أنه أول من شخَّص الفرق بين المَغَص المَعَوي والمَغَص الكَلَوي. كما أنه أول من أعطى تشخيصا دقيقا عن التهاب الأضلاع والالتهاب الرئوي، فضلا عن كونه أول من أجرى عملية فتح القناة الدمعية في العين باستعمال مسمار رفيع ومعقم.

    كان ابن سينا أحد أهم الظواهر الفكرية، لَخَّص عبقريته الطبية في كتابه “القانون في الطب” الذي فصله إلى خمسة أجزاء، وكان مرجعا أساسيا في كل جامعات أوروبا حتى القرن 18. في الجزء الأول تحدث عن الطب الكُلِّي وحدوده وأبعاده وفصَّل فيه أنواع العظام والأمراض. تحدث في الجزء الثاني عن الأدوية وتطرق فيه لتفسير الدواء وتحديد مفعوله وتأثيره. في الجزء الثالث تحدث ابن سينا عن الأمراض بعينها وكل الأمراض التي اكتشفها من الرأس حتى أخمص القدمين. الجزء الرابع خصصه لبعض الأمراض مثل الجُذام والأورام والكسور وأنواعها مع كيفية جبرها. وفي الجزء الخامس والأخير تحدث عن الأدوية المركبة. ولتيسير فهم كتابه من طرف طلابه، لخَّص ابن سينا تلك المعارف الطبية في أبيات شعرية اشتهرت بأُرجوزة الطب لابن سينا تبلغ 1329 بيتا شعريا. وبذلك يكون ابن سينا أول من استعمل الأداة الشعرية في تدريس العلوم الطبية.

    لتقريب القارئ الكريم من أُرجوزة الطب هذه، وتبيانا لقيمتها العلمية والبلاغية، نستعرض بالتفسير بعض الأبيات من قصيدته. في البيت الأول يعرض الهدف من قصيدته الشعرية حيث جاء فيه:

    أَبْدَأُ بِاسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ فِي نَظْمٍ حَسَنْ       أَذْكُرُ مَا جَرَّبْتُ عَلَى طُولِ الزَّمَنْ

    ثم عرض أبياتا يفسر فيها معنى الطب وأقسامه استهلها بالأبيات الشعرية:

    الطِّبُّ حِفْظُ صِحَّةٍ بُرْءٌ مَرَضْ         مِنْ سَبَبٍ فِي بَدَنٍ مُنْذُ عَرَضْ

    قِسْمَتُهُ الأُولَى بِعِلْمٍ وَعَمَلْ               وَالعِلْمُ فِي ثَلاَثَةٍ قَدْ اِكْتَمَلْ

    سَبْعُ طَبِيعَاتٍ مِنْ الأُمُورِ               وَسِتَّةٌ وَكُلُّهَا ضَرُورِي

    ثُمَّ ثَلاَثٌ سُطِّرَتْ فِي الكُتُبْ            مِنْ عَرَضٍ وَمَرَضٍ وَسَبَبْ

     

    في البيت الثاني يقسم ابن سينا الطب إلى قسمين: الطب العلمي النظري، والطب العملي التطبيقي. ثم يشرح الثلاثة أمور التي يكتمل بها الطب وهي: الطبيعات السبع (سيفسرها الطبيب الشاعر في أبيات لاحقة ويحددها في: الأركان والمزاج والأخلاط والأعضاء والأرواح والقوى والأفعال)، والستة الضرورية وهي: تأثير الهواء والشمس، المأكل والمشرب، النوم واليقظة، الحركة والسكون، الاستفراغ والاحتقان، الغضب والفزع (كلها يفسرها ابن سينا في أبيات شعرية). والأمر الثالث الذي يكتمل به علم الطب فهو ما وصفه بالثلاثة التي سُطِّرت في الكتب وهي: المرض وأعراضه وأسبابه.

    ثم يضيف ابن سينا الأبيات التالية:

    وَعَمَلُ الطِّبِّ عَلَى ضَرْبَيْنِ             فَوَاحِدٌ يَعْمَلُ بِاليَدَيْنِ

    وَغَيْرُهُ يَعْمَلُ بِالدَّوَاءِ                    وَمَا يُقَدَّرُ بِالغَذَاءِ

     

    في هذين البيتين يحدد ابن سينا طبيعة تدخل الطبيب وهي في حالتين: حالة التدخل الجراحي وهو ما وصفه بالعمل باليدين، وحالة العلاج بالدواء أو الغذاء. وهو التقسيم الطبي الذي ما زال معمولا به في عصرنا الحالي.

    لم يكتف ابن سينا في تأليف أحد أهم الكتب في الطب الذي ظل ملهما للأطباء لعقود، بل ما زال مرجعا في عصرنا الحالي في مجال الأعشاب واستعمالاتها. إننا بحق أمام موسوعة طبية وبلاغية وفلسفية قلَّ نظيرها في جميع العصور. وهي القيمة التي جعلته يُلقب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، وأمير الأطباء وأرسطو الإسلام.

          سعيد الغماز

     

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -13- .. ابن النفيس وابتكار تحاقن الدم

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -13- .. ابن النفيس وابتكار تحاقن الدم

    أكادير24 | Agadir24

    شكل اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية في القرن 13، دفعة قوية لتقدم الطب في القرن 16. كانت كُتب ابن النفيس مرجعا أساسيا اهتم بها الباحثون في الطب خلال عصر النهضة الذي عرفته القارة الأوروبية. اهتم علماء هذه الحقبة بتعميق البحث في الدورة الدموية باعتبارها مفتاحا للعديد من الاكتشافات في جسم الإنسان، وفي طبيعة الدم الذي يسري في الشرايين وخاصياته. الطبيب الإنجليزي -ويليام هارفي- (William Harvey)، واصل أبحاث ابن النفيس إلى أن تمكن من تحديد عناصر الدورة الدموية بدقة سنة 1628. هذه الاكتشافات مكنته من تحديد طريقة اشتغال القلب كمضخة تشتغل بقوة العضلات لتوزيع الدم على جميع أنحاء الجسد. بعد وفاة الطبيب الإنجليزي، تابع أبحاثه الطبيب الإيطالي -مارسيلو مالبيري- الذي استطاع اكتشاف الحلقة الأخيرة في إتمام الدورة الدموية والمتمثلة في وجود شرايين شَعَرِية (vaisseaux capillaires) تربط بين النظام الشِّرياني (système artériel) بالنظام الوريدي (système veineux).

    إتمام جميع الحلقات المتعلقة بالدورة الدموية، منذ اكتشافها من قبل ابن النفيس، فتح المجال للأبحاث حول إمكانية تحاقن الدم بين البشر لإنقاذ الأرواح. أول عملية لحقن الدم قام بها -جون دينيس- سنة 1667، حيث قام بحقن ليتر واحد من دم خروف في عروق رجل شاب. لكن الاعتبارات الطبية والأخلاقية، جعلت مثل هذه الأعمال تُمنع بشكل كلي. وكان على الإنسانية الانتظار حتى سنة 1900، ليكون تحاقن الدم بين البشر ممكنا نتيجة أبحاث النمساوي -لاندستينير- الذي اكتشف وجود أربع مجموعات من الدم. بعده جاء الطبيب التشيكي -جانسكي- الذي قام سنة 1910 بتسمية تلك المجموعات الأربعة من الدم ورتبها على الشكل التالي: A-B-AB-O. تطوُّر تحاقن الدم كان له دور كبير في الحفاظ على حياة الكثيرين خاصة خلال الحرب العالم الأولى.

    الأبحاث حول تحاقن الدم المُخزَّن ستعرف أول تجربة في 1917. بعد ذلك سيعرف العالم العديد من الابتكارات متعلقة بخاصيات الدم، كفصيلة “+” و “-” التي كانت نتيجة أبحاث مشتركة بين ثلاثة أطباء سنة 1940. هذا الابتكار مكَّن أخيرا الأطباء من تفسير الحالات التي عرفت مضاعفات خطيرة نتيجة عملية تحاقن الدم حيث فصيلة الدم (Rhésus) لم تكن معروفة آنذاك. وفي سنة 1957، تمكن الأمريكيان -ستوكس- و-سمولينس- من فصل البلازما عن الكريات في الدم، وهو الابتكار الذي جعل عملية التحاقن تتم بدون مضاعفات وتكون نتائجها مضمونة بنسبة كبيرة.

    نظام التنفس وعلاقته بالدم، اكتشفه الكيميائي الفرنسي -أونتوان لورون دو لافوازيي- سنة 1785. كما برهن على أن الهواء مكوَّن من الأوكسجين والآزوت. بمساعدة الرياضي -بيير دو لابلاس- سيبرهن الكيميائي الفرنسي على أن جزءا من الأوكسيجين يختلط بالدم في الرئة لضمان احتراق الكربون، فيما يختلط جزء آخر من الأوكسيجين بالهيدروجين لتكوين الماء الذي يتم إخراجه في عملية التنفس.

    لقد شكل اكتشاف الدورة الدموية من قبل ابن النفيس، عاملا أساسيا لإطلاق سلسلة من الأبحاث ساهم فيها العديد من الباحثين في العالم وعبر العصور، وكانت نتيجتها الكثير من الابتكارات التي ساهمت في علاج المرضى وإنقاذ الكثير من الأرواح.

           سعيد الغماز

     

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -12- .. ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -12- .. ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية

    أكادير24 | Agadir24

    اهتمت البشرية منذ القدم بالطب، وذلك لضرورة مجتمعية مرتبطة بالحاجة إلى معالجة الأمراض التي يعاني منها الإنسان والبحث عن الدواء المناسب، وتخفيف الآلام عند الضرورة. بداية الطب ترجع لعصر ما قبل التاريخ، حيث كان المريض يأخذ الدواء على شكل أعشاب، مصحوبا ببعض التعاويذ المرتبطة بالسحر والشعوذة. إلا أن ممارسة الطب بطرق علمية بدأ مع المصريين القدامى، الذين كانوا يمارسون الطب بمفاهيم علمية قائمة على أساس التشخيص والتكهن والفحص السريري ثم العلاج. وكانت ممارسة الطب في عهد المصريين متخصصة لدرجة أن كل طبيب مسؤول عن علاج مرض واحد لا أكثر. يعود ذلك إلى 3000 سنة قبل الميلاد.

    في الحقبة اليونانية عرف الطب مستجدات كثيرة خاصة مع أبقراط في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو من ابتكر نظام اليمين الطبي الذي ظل قائما حتى في عصرنا الحالي على شكل قسم أبقراط. كما أنه ابتكر تشخيصات طبية هامة تخص مرض الرئة المزمن، سرطان الرئة وأمراض القلب. وهو من أعطى أول وصف لتضخم الأصابع، لهذا يصف الأطباء في وقتنا الحاضر الأصابع المتضخمة بأصابع أبقراط.

    الطب الصيني ترك هو الآخر بصمته في تاريخ تطور الطب، حيث ازدهر في هذا العهد طب الأطفال وطب العيون وطب الأسنان بالإضافة إلى طرق التوليد المتطورة في عصرها. كما تطور الدواء بالأعشاب في الصين حيث أبدع الأطباء الصينيون مقولة “الأعشاب في فم سليم غذاء، وفي فم مريض دواء”. ومن أشهر أطباء الصين -هوانغو- صاحب علاج الأمراض عن طريق الوخز بالإبر.

    استفاد العلماء في العصر الإسلامي من هذا الإنتاج البشري في مجال الطب لتطوير الأبحاث والعلاجات. وكان اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدوران الرئوي) من قبل العالِم والطبيب -ابن النفيس- ثورة علمية كبرى في وقتها، فتحت المجال واسعا ليشمل الطب كل أجزاء الإنسان. قبل قرون، كان العلماء يبحثون عن كيفية انتقال الدم من البُطين الأيمن إلى البُطين الأيسر داخل القلب. إلا أن جاء الطبيب اليوناني الشهير جالينوس وقال إن الدم ينتقل من البُطين الأيمن مباشرة إلى البُطين الأيسر عن طريق مسامات دقيقة في الغشاء الفاصل. وهو ما جعل الطبيب اليوناني يعتقد خطأ أن الدم يتولد في الكبد، ومنه ينتقل إلى القلب ويمر عبر المسامات لينتقل من البُطين الأيمن إلى البُطين الأيسر، وقد تبنى أطروحته الطبيب والفيلسوف ابن سينا.

    بقيت هذه الاعتقادات الخاطئة سائدة لعدة قرون إلى أن جاء ابن النفيس بدراسات علمية وفندها. في القرن 13 ميلادي، بعد دراسته لمسار الدّم في العروق وسريانه في الجسم، استطاع ابن النفيس أن يصف الدّورة الدّمويّة بدقّة لأول مرة في التاريخ. وهو ما جعله يكسب الجرأة اللازمة لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه أحد أشهر الأطباء اليونانيين، ويُثبت أن الدم يخرج من البُطين الأيمن إلى الرئتين حيث يُنقَّى ثم يعود إلى القلب عن طريق البُطين الأيسر، وهو ما يعرف بالدورة الدموية الصغرى. كما أثبت العالِم والطبيب، أن الجدار الفاصل بين البُطين الأيمن والأيسر هو جدار صلب لا يحتوي على المسامات، مفندا ما ذهب إليه جالينوس. وقد شرح ابن النفيس الدورة الدموية بشكل دقيق في كتابه المسمى “شرح تشريح القانون” حيث أكد فيه مدى العلاقة بين علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا). كان ذلك قبل أن يُنسب هذا الابتكار للطبيب البريطاني -وليام هارفي- الذي توفي سنة 1657، علما أن الطبيب الإيطالي -ألباجو- ترجم كتاب ابن النفيس الذي فسر فيه الدورة الدموية، إلى اللغة اللاتينية سنة 1547، وهو الكتاب الذي سبق أبحاث -وليام هارفي- بحوالي 400 عام.

    لقد شكل ابتكار ابن النفيس للدورة الدموية ثورة حقيقية في تاريخ الطب، أعطت لهذا العلم دفعة قوية في فهم كيفية اشتغال أعضاء الجسم البشري، وتطوير علاجات الأمراض. أبحاث ابن النفيس امتدت إلى علم تشريح القلب، وهو أول من تكلم عن تغذية العضلة القلبية من الشرايين الإكليلية أو التاجية، ودعا إلى دراسة ما يدعى التشريح المقارن (Comparative Anatomy) لفهم التشريح البشري. لم يكتف ابن النفيس من نقض أخطاء أطباء العصر اليوناني، بل فند كذلك بعض نظريات ابن سينا خاصة فيما توصل إليه هذا الخير بخصوص غذاء القلب. يقول ابن النفيس عن ابن سينا “وجعلِه للدم الذي في البطن الأيمن، منه يتغذى القلب لا يصلح البتة، فإن غذاء القلب إنما هو من الدم المنبث منه من العروق المنبثة في جرمه…”. وبذلك يكون ابن النفيس أول من تحدّث عن تغذية العضلة القلبيّة من الشّرايين التّاجيّة، وسبق بنظريته هذه -ريالدو كولومبو- الطبيب الإيطالي الذي أسند اكتشاف هذه النظرية لنفسه، فقد عاش كولومبو في القرن 16 بينما تعود نظريات ابن النفيس إلى القرن 13.

    إلى جانب دراساته في تشريح القلب، امتدت أعمال ابن النفيس إلى دراسة وظيفة الإبصار في العين، وهو صاحب المقولة الشهيرة “إن العين آلة للبصر، وليست باصرة، وإلا لرُئي الواحد بالعينين اثنين، وإنما تتم منفعة هذه الآلة بروح مدرك يأتي من الدماغ”، وكان إدراج الدماغ في عملية البصر، حدثا متقدما في عصره. ولابن النفيس كذلك نظريات صائبة في فيزيولوجيا الرؤية، وهو يفرق بين فعل الإبصار والتخيل، ويقول إن لكل من هذين الفعلين مركزا خاصا في الدماغ. وأعطى الطبيب العالِم وصفا دقيقا للقرنية حيث يقول إنها مؤلفة من أربع طبقات، وإنها شفافة “لا تحتوي على عروق دموية لئلا يتغير إشفافها”.

    كما أن ابن النفيس هو أول من أشار إلى الاعتدال في تناول الملح، وقدّم أدق الأوصاف عن أخطار الملح وتأثيره في ارتفاع ضغط الدم، وأبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين ووظائفها.

    لقد كان فعلا ابن النفيس مبتكرا ومخترعا، ظلت ابتكاراته قائمة حتى عصرنا الحال. فإلى جانب ما ذكرناه سالفا، يعود إلى ابن النفيس تحديد الشروط التي يجب مراعاتها عند استعمال الأدوية، ومنها الوقت الصّحيح لاستخدام الدّواء ومقداره. وهي نظريات يستعملها الطب في عصرنا الحالي.

        سعيد الغماز

     

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -11- .. الجزري وتطور الروبوتات

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -11- .. الجزري وتطور الروبوتات

    أكادير24 | Agadir24

    الروبوتات يمكن أن تتخذ عددا من الأشكال. قد يشبه الروبوت الإنسان أو يكون على شكل تطبيق آلي، مثل أتمتة العمليات الروبوتية، والذي يحاكي كيفية تفاعل البشر مع البرامج لأداء مهام متكررة قائمة على قواعد محددة. هذا ما قام به الجزري بروبوت أسماه “نافورة الطاووس” حيث قلد حركات الإنسان وجعلها تتم عن طريق روبوت يعمل بشكل آلي. من جهة أخرى يقوم الروبوت على أساس قاعدتين: تقنية الحركة الذاتية والذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكسه روبوت الجزري الذي يتحرك بشكل آلي ويستعمل الذكاء في تحديد أوقات الصلاة. وقد احتار العلماء في معرفة الكيفية التي يعتمدها هذا الروبوت في تحديد أوقات الصلاة بشكل تلقائي.

    الروبوت هو آلة قادرة على القيام بأعمال مبرمجة سلفا، إما بإيعاز وسيطرة مباشرة من الإنسان أو بإيعاز من برامج حاسوبية. لكن التطورات التي تعرفها الأبحاث في الروبوتات في القرن الحالي، جعلت هذا التعريف يتطور هو الآخر ليصبح الروبوت آلة تعمل من خلال استشعار محيطها لتتمكن من الوصول إلى إجراءات واتخاذ قرارات تنفذها في العالَم الحقيقي.

    يعود أصل كلمة روبوت إلى اللغة التشيكيّة وبالضبط كلمة “روبوتا” التي تعني الجهد أو العمل الشاق. وظهرت كلمة الروبوت لأول مرة في عمل مسرحي للكاتب التشيكي -كاريل تشابيك-، الذي استخدم المصطلح في مسرحيته عام 1920. لكن في الأربعينيات من القرن الماضي، نسب قاموس أوكسفورد الإنجليزي الفضل في ظهور مصطلح الروبوت إلى مؤلف الخيال العلمي إسحاق عظيموف لكونه أول شخص يستخدم هذا المصطلح. ففي واحدة من قصص الكاتب الأمريكي الروسي الأصل الصادرة عام 1942م، تحدث عن الروبوت كوسيلة لخدمة الإنسان. اقترح عظيموف في كتابه، ثلاثة مبادئ لتوجيه سلوك الروبوتات المستقلة والآلات الذكية:

    – يجب ألا تُؤْذي الروبوتات البشر أبدًا.

    – يجب على الروبوتات اتباع تعليمات البشر دون انتهاك القاعدة.

    – يجب على الروبوتات حماية نفسها دون انتهاك القواعد الأخرى.

    وقد ظلت قوانينه الثلاثة للروبوتات قائمة حتى يومنا هذا. ومع ذلك، لم يتم إنشاء أول روبوت قابل للبرمجة إلا بعد عقدين من الزمن في سنة 1961، يسمى يونيمايت (Unimate). وفي عام 1966، تبعه روبوت معهد ستانفورد للأبحاث الذي أُطلق عليه اسم “شاكي”، وهو أول روبوت متنقل، وذلك بفضل البرامج والأجهزة التي مكنته من استشعار البيئة حوله واستيعابها، وإن كان بقُدرة محدودة. كان هذا الروبوت متقدما جدًا عن الروبوت يونيمايت، وقد سُميّ باسم شاكي (Shakey) لحركاته المُبعثرة والمتذبذبة نتيجة قدرته على الاستجابة لمحيطه وبيئته، وحتى المحيط غير المألوف له، وقدرته على التجول وملاحظة الأشياء بعينيه.

    شهدت الروبوتات في النصف الثاني من القرن العشرين تقدما كبيرا، وذلك بسبب التطورات التي شهدتها التكنولوجيا بعد اختراع الترونزيستور وتطور علوم الكمبيوتر خاصة الإعلاميات. وفي القرن الواحد والعشرين ستعرف صناعة الروبوتات نقلة نوعية مع تطور الرقمنة وظهور علم الذكاء الاصطناعي. لقد أصبحت الروبوتات في هذه الفترة قادرة على أداء المهام بشكل مستقل، وأصبح الطموح الإنساني يمتد إلى محاولة تطوير الروبوت ليتمكن من تجاوز مرحلة الروبوت المُبرمج سلفا، إلى الروبوت القادر على التفاعل الفعلي مع الإنسان وتطوير قدراته بشكل تلقائي، ولما لا الوصول إلى روبوت يتمتع بأحاسيس وشعور مثل الإنسان، يفرح يغضب يضحك يبكي يقلق إلى غيرها من الأحاسيس الإنسانية.

    وما زالت صناعة الروبوتات تشهد تطورات مستمرة في الوقت الحالي، وذلك بهدف جعلها أكثر ذكاء وقدرة على أداء المهام بشكل أكثر استقلالية تحاكي الفعل الإنساني.

    يتكون الروبوت من عدّة مكونات يمكن تلخيصها في ثلاث مكونات: المُعدات، المستشعِرات (Capteurs)، وجهاز الكمبيوتر أو الشريحة الذكية. ويُستخدم الروبوت في العديد من المجالات كالمطاعم، ومساعدة المسنين، وفي الطب، والتعليم، والمصانع وغيرها.

    علم الروبوتات هو مجال متعدد التخصصات في العلوم والتكنولوجيا، يرتكز على تصميم وإنشاء وبرمجة الروبوتات. فهو يجمع بين المعرفة من مختلف المجالات، بما في ذلك علوم الكمبيوتر، والهندسة الميكانيكية، والهندسة الكهربائية، والذكاء الاصطناعي.

    عندما نتحدث عن الروبوت فهذا لا يعني بالضرورة تلك الآلة الذكية التي صُنعت على شكل إنسان بأطرافه الأربعة. وإنما يمكن للروبوت أن يتخذ أشكالا مختلفة تأخذ شكل ذراع آلية، أو هيكل خارجي آلي، أو آلة مصمَّمة لأداء دور في الصناعة. ويجمع بين تلك الأشكال الحركة الذاتية والذكاء الاصطناعي. دخل الروبوت لأول مرة في الإنتاج الصناعي سنة 1961 حين استخدمت جنيرال موتورز أول روبوتات صناعية في مصانعها. فبدأ الذكاء يتطور في الروبوتات إلى أن استطاع الروبوت “ديب بلو” من هزم لاعب الشطرنج الأسطورة -غاريغ كاسباروف- سنة 1997. حينها شرع العالم في الحديث عن إمكانية تفوق الروبوت على الذكاء الإنساني. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح بإمكان الروبوتات أن تحصل على جنسية بعض البلدان كالروبوت صوفيا التي حصلت على الجنسية السعودية. ويُعتبر الروبوت أسيمو(Asimo) ) الأغلى سعرًا في العالم. لكن هذا التطور في صناعة الروبوتات لا يمكن أن يخفي بعض الأعراض الجانبية للبشرية اتجاه الروبوتات كالروبوفوبيا Robophobia)) وهو اضطراب وقلق يشعر فيه الشخص بالخوف الشديد من الروبوتات.

    نعم ستتطور الروبوتات، وسيتأثر هذا التطور بالطموح الإنساني ونظرته لهذه التكنولوجيا الذكية. ويكفي أن نشير في هذا الاتجاه العمل الذي يقوم به -إيلون ماسك- صاحب شركة تيسلا، الذي يُحذر من قدرة الروبوتات على تجاوز الذكاء الإنساني، وله مقولة شهيرة حول الذكاء الاصطناعي “إذا كنا لا نستطيع التغلب على الذكاء الاصطناعي، فمن مصلحتنا التعامل معه”. على هذا الأساس أنشأ شركة “سبايس إكس” التي تعمل على المزج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي من خلال شريحة ذكية توضع في غشاء المخ ليصير الإنسان قادرا على استعمال الذكاء الاصطناعي إلى جانب ذكائه البشري… نعم ستتطور الروبوتات ولا يحد تطورها سوى قدرة الإنسان على الابتكار والاختراع.

    سعيد الغماز

     

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -10- .. أبو العز الجَزَرِي أول من اخترع روبوت في التاريخ

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -10- .. أبو العز الجَزَرِي أول من اخترع روبوت في التاريخ

    أكادير24 | Agadir24

    تشكل الثورة الرقمية عنصرا أساسيا في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يتطور في وقتنا الراهن. ومن بين اختراعات عصر الذكاء الاصطناعي ما يعرف بالروبوتات أي آلات على شكل إنسان ذكية وذاتية الحركة، وهو ما يمكن توصيفه ب”الإنسان الآلي”. استنادا إلى هذا المفهوم للروبوت، وبعودتنا لتاريخ تطور الآلات، يمكننا القول إن أول روبوت على شكل إنسان عرفته البشرية كان من صنع عالِم العصر الذهبي الإسلامي أبو العز الجَزَرِي في القرن 12 ميلادي. كان هذا الروبوت، الذي أطلق عليه الجزري اسم “نافورة الطاووس”، على شكل إنسان فوق رأسه طائر ويحمل في يده إبريقا مليئا بالماء، وفي اليد الأخرى منشفة. ولما يحين وقت الصلاة يُصفِّر الطائر ويتقدم الروبوت إلى الأمام ليصُب الماء للمتوضئ بكمية معينة، ثم يضع المنشفة تحت تصرفه قبل أن يعود إلى مكانه. ظل هذا الإنسان ذاتي الحركة أو “روبوت الصلاة” محط تساؤل للكثير من العلماء عن كيفية معرفته بأوقات الصلاة. فروبوت الجزري يجمع بين الإنسان ذاتي الحركة والذكاء المتمثل في معرفة أوقات الصلاة، وهما العنصران المشكلان لروبوتات العصر الحالي أي الأتمتة والذكاء الاصطناعي.

    وضع العلماء الكثير من الفرضيات التي تناقش كيفية معرفة روبوت الجزري بأوقات الصلاة، وكيفية تحركه. ومن أبرز هذه النظريات اعتماده على أشعة الشمس التي تدخل إلى الغرفة الموجود فيها، كما أن تبخر القليل من الماء كاف لتَحرك مفاصل الروبوت، ولحثه على التحرك إلى الأمام أو الخلف بناءً على تحكم عدة موازين دقيقة موضوعة داخل هذا الجسم.

    انتظرت البشرية سنة 1954 ليقوم المخترع الأمريكي -جورج ديفول- بتطوير فكرة الجزري ويصنع ثاني روبوت في تاريخ البشرية ويسميه “أنيميت” باستعمال تقنيات القرن العشرين الذي شهد اختراع الترانزستور وتطور علوم الإلكترونيك والإعلاميات. ولذلك يصف بعض المتخصصين في تاريخ العلوم، الجزري بأنه “أبو الإنسان الآلي” وديفول “أول مخترع للروبوت”. لكن في نظر آخرين يظل الجزري أول من اخترع الروبوت في العالم.

    الجزري مهندس في الميكانيكا ومن أهم المخترعين في عصره، وكانت اختراعاته ملهمة للكثير من الآلات التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية. صمم الجزري الكثير من الآلات التي كانت لها أهمية كبيرة في عصره، وجمع كل أعماله في كتابه الشهير المزود برسومات توضيحية “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحِيَّل” الذي كان نتيجة 25 سنة من الدراسة والبحث والتجارب. وصف الجزري في كتابه 50 جهازاً وآلة بتفصيل متناهي، وصنفها في 6 فئات أساسية مختلفة حسب الاستخدام وطريقة الصنع. وباستعمال لغة عربية بسيطة وسهلة الفهم، ورسومات توضيحية ملونة، شرح الجزري دراساته وأبحاثه عن الساعات والآلات الرافعة للماء والأثقال، بطريقة تُسهل على القارئ فهم أي شيء متعلق بالجهاز. كانت أعمال الجزري أحد الأسس العلمية في نهضة الحضارة العربية الإسلامية، التي انتقلت إلى أوروبا عبر ترجمة كتبه إلى العديد من اللغات، فيكون بذلك قد أسهم في الكثير من الاختراعات التي عرفتها النهضة الغربية. من تلك الأعمال آلات رفع الماء حيث كانت هذه الآلات معقدة وتدور بقوة دفع الحيوانات وليس بقوة الماء، فكان الجزري أول من وضع أسس الاستفادة من الطاقة الكامنة في دوران المياه بشكل عملي. وقد شكل هذا الاختراع ثورة هندسية وعلمية كبيرة في عصره، لأنها ساهمت بشكل كبير في تسهيل عملية رفع الماء وجعلتها أكثر يسرا ونجاعة. من بين اختراعاته كذلك ساعات مائية ذات نظام تنبيه ذاتي، وصمامات تحويل، وأنظمت تحكم ذاتي، ومضخة ذات اسطوانتين متقابلتين وهي تقابل حاليا المضخات الماصة والكابسة. من بين اختراعاته أيضا نواعير رفع الماء التي ترفع الماء عن طريق الاستفادة من الطاقة المتوفرة في التيار الجاري في الأنهار.

    وتعتبر ساعة الفيل الضخمة أهم اختراعاته ومصدر عزه وفخره. ساعة الفيل تعمل بنظام مائي وصُممت على شكل فيل يحمل على ظهره شخصياتا وأشكالا من 6 حضارات مختلفة (العربية والمصرية والإفريقية والإغريقية والصينية والهندية)، وتُصدر أصواتاً في كل نصف ساعة، بالإضافة إلى اختراع عمود الكامات الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام اعتماداً على الحركة الذاتية، والتي تعتبر البذرة الأولى في علوم المحركات ومضخات المياه الدافعة. كما قام الجزري بصناعة ساعة مائية لها ذراعان تشيران إلى الوقت وهو ما شكل تطورا علميا كبيرا في صناعة الساعات في عصره.

    قيمة الأعمال والابتكارات التي قام بها الجزري، ودورها في اختراعات النهضة الأوروبية، جعلت أعماله تُعرض في أشهر متاحف العالم مثل متحف الباب العالي في إسطنبول ومتحف اللوفر الفرنسي بباريس ومتحف الفنون في بوسطن الأمريكية، بالإضافة إلى اهتمام الكثير من المؤسسات بطباعة كتابه الشهير تحت عنوان “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” كجامعة أوكسفورد ومعهد التراث العلمي العربي. وذلك تقديراً منهم لإنجازاته العلمية السابقة لوقتها والتي أسهمت في دفع البشرية نحو عصر الآلات والصناعة والروبوتات.

     

    سعيد الغماز

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -9- .. الخوارزمي ومراحل اختراع الساعة

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -9- .. الخوارزمي ومراحل اختراع الساعة

    أكادير24 | Agadir24

    اهتمام الخوارزمي بالرياضيات جعله يدرك قيمة الوقت وأهميته في تطور المجتمعات، وأنه أثمن أصل يمكن لأي عالم أن يمتلكه. فأخذ يعمل على تطوير وتحسين الساعة الشمسية التي ساعدت المسلمين على تحديد أوقات الصلاة واقتصر وجودها آنذاك في المساجد. وابتكر مربع الظل جاعلًا منه أداة دقيقة لتحديد الوقت من خلال تحديد مدى ارتفاع جسم ما.

    اشتغال الخوارزمي في بيت الحكمة الذي أنشأه المأمون في بغداد، جعله يتعرف على أعمال الصينيين واليونانيين المتعلقة بساعة ضبط الوقت وقياس طول الليل والنهار. وتعتبر تلك الأعمال من أقدم آلات قياس الوقت لأن تاريخها يرجع إلى عام 3500 قبل الميلاد. قام الخوارزمي بتطوير هذه الأعمال لصناعة ساعة يستخدمها المسلمون في المساجد لتحديد أوقات الصلوات. وأفضت أبحاث العلماء في العصر الإسلامي، بمساهمة الخوارزمي إلى صنع آلة تشبه في وظيفتها الساعة التي نعرفها في عصرنا الحالي. وكان الاسم الأول لهذه الآلة هو “المِزْوَلَة”، وهي ساعة شمسية وأداة توقيت نهاري، تتكون من عدة نقاط وخطوط، رُسمت على صفيحة عريضة، وفي وسطها عصا مستقيمة أفقية تساعد على تحديد الوقت من خلال طول ظلها الناتج عن وقوع أشعة الشمس عليها، حيث تترك ظلا متحركا على النقاط والخطوط.

    تقوم صناعة الساعة على أساس تقسيم النهار إلى ساعات ودقائق. ويعود هذا التقسيم إلى عصر المنجمين البابليين أي حقبة 3000 سنة قبل الميلاد. تقسيم النهار إلى ساعات ودقائق كان وراء ظهور وتطور صناعة الساعات. وقد عرفت هذه الصناعة تطورا كبيرا باختراع أول محرك لعقارب الساعة من طرف الصيني -هينغ- سنة 725م، وشكل هذا الاختراع تطورا كبيرا في صناعة الساعات، جعلها تدخل منعطفا جديدا. توالت التطويرات لهذا الاختراع عبر الحقب والعصور، إلى أن تمكن الإنجليزي -روبير هوك- سنة 1675 من اختراع النابض اللولبي (Ressort spiral) الذي كان محددا في تطوير وتجويد دقة ضبط وقت الساعة. هذا النابض اللولبي ما زال مُستعمَلا إلى وقتنا الحاضر. وقد جاء اختراع -هوك- نتيجةً لأبحاث -جاليليو- الذي اكتشف سنة 1602 قوانين وخصائص الرقاص (Pendule) التي كانت وراء اختراع ساعة الرقاص (Horloge à pendule) من طرف الهولندي -كريستيان هيوجينز- سنة 1657.

    بعد استعمال النابض اللولبي في محرك الساعة، عرفت صناعة الساعات تطورات متتالية، حيث توصل الإنجليزي -جون هاريسون- سنة 1736 إلى اختراع أول كرونوميتر مصنوع من الخشب قبل تطويره وإتقان تقنيته نهائيا في 1761. وفي 1847 سيتمكن الفرنسي -أونتوان ريديي- من اختراع أول منبه للاستيقاظ الصباحي. وسيعرف العالم لأول مرة ساعة اليد في 1907، والتي ستكون سببا في فوز العداء -سانتوس ديمونت- بسباق العدو وهو ما أكسب ساعة اليد شهرة كبيرة، وشجع الناس على حملها رغم التردد في البداية، وهي الساعة التي طرحتها في الأسواق شركة روليكس. الساعة المقاومة للماء تعود لسنة 1926 بعد أن كانت شركة روليكس أول من قام بتسويقها. وسيعرف العالم ميلاد ساعة الكوارتز في 1919 من قبل المخترع الأمريكي -وارين ألفان ماريسون-، ولن يتم بيع ساعة الكوارتز في الأسواق سوى في سنة 1970.

    سعيد الغماز

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -8- .. الخوارزمي والذكاء الاصطناعي

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -8- .. الخوارزمي والذكاء الاصطناعي

    أكادير24 | Agadir24

    الخوارزمي شخصية لها مكانة كبيرة في التاريخ وفي عصرنا الحاضر كذلك، لارتباط أعماله بما يشهده عصرنا في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. فالعديد من المختصين يذهبون إلى أن كل هذا التقدم الذي يشهده العالم لم نكن لنصل إليه لولا مساهمات الخوارزمي، وعلى رأس هؤلاء المختصين المؤرخ البلجيكي -جورج سارتن- الذي حين كان يضع الأسس الأولى لعلم تأريخ العلم، استوقفته مؤلفات الخوارزمي فقال عنه “إنه أعظم علماء الرياضيات في عصره، وواحد من العظماء في التاريخ إذا ما أخذنا كل الظروف بعين الاعتبار”.

    قد يبدو للبعض أن ربط اسم الخوارزمي الذي ينتمي للقرن التاسع ميلادي، بتكنولوجيا معقدة مرتبطة بالقرن الواحد والعشرين، ربط مبالغ فيه. لكننا نقول إن هذا الاعتقاد مرده إلى افتقاره الإلمام بمنجزات الخوارزمي من جهة، وابتعاده عن المقومات العلمية التي تقوم عليها التكنولوجيا الحديثة. فإذا كان اختراع المحرك البخاري في النصف الثاني من القرن 18 قد أعطى الانطلاقة العلمية للثورة الصناعية، فإن اختراع الترانزستور في منتصف القرن العشرين أعطى الانطلاقة العلمية للثورة الرقمية التي سمحت بظهور علم الذكاء الاصطناعي. وإذا علمنا أن الترانزستور الذي ساهم في ظهور الكمبيوتر وعلم الإعلاميات، يستعمل لغة ثنائية هي 0 و1، وأن مخترع الصفر هو الخوارزمي، نتأكد بأن ربط عالِم الرياضيات الأول بالثورة الرقمية، هو خاضع لمنطق العلم وحقيقة التاريخ. وإذا علمنا أن الكومبيوتر الذي كان وراء ظهور الذكاء الاصطناعي، يعتمد على الخوارزميات التي وضع أسسها الخوارزمي، تزيد قناعتنا بأن نظريات الخوارزمي في الرياضيات هي أصل الثورة الرقمية في القرن 21.

    قبل ظهور الذكاء الاصطناعي، عرف العالم ثورة علمية في المجال الرقمي، فأصبحت الرقمنة حاضرة في كل فعل إنساني. لكن مجال فعل التكنولوجيا الرقمية، يقتصر على موضوع المعطيات، وتتميز بالتفوق الكبير على العقل البشري بقدرتها على معالجة تلك المعطيات بسرعة هائلة، وجعلها بيانات قابلة للاستعمال، ومعلومات ذكية تساعد على الابتكار. لكن مع بروز ما أصبح يُعرف بالذكاء الاصطناعي، انتقلت التكنولوجيا الرقمية من مرحلة معالجة المعطيات، إلى مرحلة إنتاج المعرفة ومنافسة العقل البشري ليس في سرعة التعامل مع المعطيات فحسب، وإنما في التفكير والتحليل واتخاذ القرارات.

    لقد ساهمت المرحلة الأولى (مرحلة معالجة المعطيات) في تمكين التكنولوجيا الرقمية من كم هائل من المعطيات والبيانات. خلال هذه المرحة كان الذكاء الاصطناعي يصاحب العقل البشري في الابتكار وتطوير التكنولوجيا الرقمية. هذه الأخيرة جعلت العالم يتحول إلى بنك من المعلومات يستحيل على العقل البشري تحليلها ومعالجتها لتصير بيانات قابلة للاستهلاك والاستعمال. إنها مرحلة إنتاج المعلومات والمعطيات بامتياز، وهذا ما خلُصت له دراسة قام بها معهد “ماكنزي العالمي” تفيد أن حجم البيانات يتزايد بمعدل 40 % سنويا، وأن هذا الحجم في 2020 بلغ 50 مرة ضعف ما كانت عليه في 2009 حسب تقدير نفس المعهد. كما أن تحاليل الخبراء تُجمِع على أن 90 % من البيانات التي أنتجتها البشرية منذ القدم وإلى حدود الساعة، تم إنتاجها بعد ظهور شبكة الأنترنيت والشبكات الاجتماعية. هذه الأرقام تجعلنا نعرف بالملموس حجم البيانات التي أصبحت تتناثر عبر العالم، وكيف صارت مصدر تنافس دولي، بل وصراع بين الدول خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. هنا برزت الحاجة إلى التعاطي مع الحلول الرقمية، وأصبح التحول الرقمي ضرورة تكنولوجية لكل بلد يريد الانخراط في التنمية وتطوير قدراته الاقتصادية. فمجال الرقمنة أصبح يحتل مكانة كبيرة وأساسية في جميع المنتوجات التي توَصَّل إليها العقل البشري.

    المرحلة الثانية في تطور التكنولوجيا الرقمية هي مرحلة إنتاج المعرفة. خلال هذه المرحلة نلاحظ تراجع العقل البشري مقابل سيطرة الذكاء الاصطناعي. فبنك المعطيات العالمي أصبح يتوفر على كمٍّ لامتناهي من المعلومات تكون عصية على العقل البشري، لكنها في غاية السهولة بالنسبة للذكاء الاصطناعي، لأنه أصبح يتمتع بقدرات خارقة تسمح له بمعالجة الملايير من المعطيات في ثوان محدودة. هذه القدرات الخارقة بمنطق التفكير البشري، جعلت الذكاء الاصطناعي بإمكانه منافسة العقل البشري في الابتكار وإنتاج المعرفة بل حتى في الاختراع. لتوضيح الصورة أكثر يكفي أن نشير إلى التطبيق الجديد ChatGPT الذي أصبح بإمكان أي شخص أن يطلب منه عملا فيوفره له في ثوان، بدل جهد بشري قد يتطلب أياما وشهورا.

    بدأ الذكاء الاصطناعي يغزو العالم، فأصبحنا نتحدث عن الروبوت الذكي والسيارة الذكية والتطبيقات الذكية، بل وحتى الحكومة الذكية والمدينة الذكية وهو المثال الذي سنستعمله لإيضاح علاقة أبحاث الخوارزمي بالذكاء الاصطناعي الذي نعيش تفاصيله في وقتنا الراهن. يُعرِّف الاتحاد الدولي للاتصالات (UIT) المدينة الذكية على أنها “مدينة مبتكِرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة، مع ضمان تلبية احتياجات الأجيال الحالية والقادمة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية”. هذا المفهوم تطرق له الخوارزمي في القرن التاسع حين قال “التحليل الرياضي يجعل العالم أفضل وأكثر فهما” وقوله أيضا “العلم والرياضيات هما مفتاح الابتكار والتطور”. هكذا يكون العلم والرياضيات في نظر الخوارزمي يجمعان بين الابتكار وجودة الحياة، وهو ما ذهبت إليه مؤسسة الاتصالات الدولية بعد 11 عشر قرنا على أقوال الخوارزمي. لقد اعتبر الخوارزمي منذ القرن التاسع أن الرياضيات تساهم في معالجة تحديات الحياة وتخلق فرصا للتطور، وهو ما نجده بصريح القول حين قال “التحديات الرياضية تمنحنا أدوات لحل التحديات في حياتنا” وقوله كذلك “الابداع الرياضي يخلق فرصا للتجديد والتطور”. وبالفعل، فإن تطور الرياضيات جعل البشرية تعيش عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. ويعتبر الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لا يحده سوى قدرة الإنسان على الابتكار، وهو ما يتوافق مع مقولة الخوارزمي “الابتكار في علم الحساب، يفتح آفاقا لا حدود لها”.

    على هذا الأساس يمكننا القول إن الخوارزمي قد سبق زمانه بأكثر من 10 قرون، وأن اختراعه لرقم 0 وللخوارزميات، وتظافر جهود العلماء في مختلف بقاع العالم وحقبه التاريخية، هو ما جعلنا نعيش عصر الذكاء الاصطناعي.

        سعيد الغماز

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -7- .. الخوارزمي أول عالم رياضيات

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -7- .. الخوارزمي أول عالم رياضيات

    أكادير24 | Agadir24

    يعتبر الخوارزمي من أوائل علماء الرياضيات، حيث ساهمت أعماله في تقدم كبير للرياضيات في عصره وفي العصور التي تلته. هو كذلك أحد أهم علماء الرياضيات العرب والمسلمين الذين أبدعوا في فرعي الحساب والجبر، حيث قدّم مؤلفاتٍ مشهورة عالميًا إلى الآن.  ومن أهم مؤلفاته كتاب “المختصر في حساب الجبر والمقابلة” الذي تُرجم إلى لغات أخرى كاللغة اللاتينية، وعرض فيه أول حل منهجي للمعادلات الذي بفضله استطاعت البشرية حل وتفسير مجموعة من المسائل والمعضلات الرياضية عبر التاريخ. ويرجع له الفضل في وضع النسب المثلثية لحساب المثلثات. ابتكر الخوارزمي علم الجبر وفصَّل فيه باعتباره علما قائما بذاته، وهو العلم الذي ما زال سائدا في عصرنا الحالي وبنفس المصطلح (Algèbre). ومن أبرز اكتشافاته كذلك المعادلات من الدرجة الثانية، والتي طورها بأسلوب هندسي كان الأساس في حل العديد من المعادلات المعقدة الأخرى. وقد شكل هذا الكتاب مرجعا رئيسيا خلال حقبة النهضة الصناعية التي عرفتها أوروبا.

    لقب الخوارزمي بأنه أبو الحاسوب لدوره الكبير في الحواسيب، من خلال الخوارزميات. وهو العلم الذي يعمل على حل المسائل المعقدة المختلفة، وما زال يُستخدم في عصرنا الحالي. ولذلك أطلق عليه البعض أبو الكومبيوتر. ومن أجمل ما قاله الخوارزمي عن هذا العلم “الخوارزميات تعلمنا أن كل مشكلة لها حل” وقوله كذلك “الاهتمام بالتفاصيل يصنع الفرق في الرياضيات”، وهي مقولة شكلت تقدما كبيرا في عصرها. ولم يكن الخوارزمي يعتبر الرياضيات نظريات فحسب، بل يربطها بالواقع وهو ما نجده في مقولته الشهيرة “التحديات الرياضية تعلمنا الصبر والإصرار” وقوله كذلك “المهارة في حل المسائل الرياضية تدعم التفكير النقدي”، نضيف كذلك مقولته المتقدمة جدا عن عصره “الرياضيات تظهر لنا أن النظام والتنظيم يجلبان النجاح” و “الالهام في علم الرياضيات يولد الابداع والتقدم” و”التحديات الرياضية تعلمنا أن الفشل ليس نهاية الطريق”. هكذا كان الخوارزمي لا يعتبر الرياضيات علما دقيقا فحسب، بل يمتد تأثيرها إلى طريقة تفكيرنا وسلوكنا في المجتمع.

    وقد ساهمت ابتكاراته في الرياضيات في تطورات تكنولوجية كبيرة من الآلة الحاسبة البسيطة إلى الذكاء الاصطناعي المعقد مرورا بالحواسيب. فبعد 8 قرون من أعمال الخوارزمي، سيتمكن الألماني -ويلهيلم شيكارد- من صناعة أول آلة حاسبة سنة 1624 تستطيع القيام بأربع عمليات فقط: زائد-ناقص-الضرب والقسمة. وفي سنة 1642 سيتمكن العالم -بليز باسكال- من صناعة أول آلة حاسبة رقمية وفق مبدأ الحساب “خطوة خطوة”.

    وفي حين شهدت الدولة العباسية ترجمة النصوص اليونانية والفارسية وغيرها إلى العربية، ساهم ذلك في نهضة علمية كبرى عرفها العصر الإسلامي، كان لعمل الخوارزمي الكبير في علم الرياضيات أيضًا، تأثير على الرياضيات الأوروبية خلال عصر النهضة، حيث تُرجم كتابه عن الأرقام الهندية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر ثم نُقل إلى أوروبا. ومن هناك تُرجم إلى لغات أوروبية أخرى وأدى إلى تقدمٍ في الرياضيات الأوروبية بحلول القرن السادس عشر.

    كانت بلاد المسلمين والعرب مركزًا رئيسيًا للرياضيات في العصور الوسطى. حيث اخترع علماء الرياضيات العرب العديد من الفروع الجديدة للرياضيات خلال هذه الفترة الزمنية، كما أشرنا إلى ذلك بعلوم الجبر والخوارزميات والحساب. كان علماء الرياضيات العرب متقدمين بفارق كبير عن نظرائهم الأوروبيين لنحو أربعة قرون في فترة القرون والوسطى. وكما اخترع الخوارزمي الجبر في القرن التاسع، قدم ابن فرناس مساهمات مبكرة في علم المثلثات، وقدم شرف الدين الطوسي في القرن 13، مساهمات مهمة في علم المثلثات الكروية. ذلك بالإضافة إلى العديد من العظماء الآخرين في مجال الرياضيات مثل أبو كامل، وابن يونس، وعمر الخيام.

    إذا كان التطور العلمي والتكنولوجي نتيجة تظافر مجهود بشري عبر الحقب والعصور، فإن العالم الرقمي الذي نعيش أطواره في عصرنا الحالي، يجسد بجلاء هذا المفهوم. فالرقمنة ما كانت لتتطور بهذا الشكل لولا اختراع الخوارزمي لرقم صفر. الحاسوب الذي سمح بظهور العالم الرقمي، لا يشتغل سوى برقم 0 ورقم 1. فبدون رقم 0، لم يكن للعالم أن يصل إلى الثورة الرقمية التي جعلتنا نعيش عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. كما أن علم الخوارزميات الذي يحمل اسم عالِم حقبة العصر الإسلامي، كان وراء تطور البرمجيات التي سهلت أمور حياتنا، وأنتجت لنا التطبيقات التي يستعملها الملايين من الناس في وسائل التواصل الاجتماعي.

    الثورة العلمية التي أنجزها الخوارزمي في الجبر والرياضيات خلال القرن التاسع ميلادي، كانت من ابتكاره ولم يسبق لعالم أن تطرق إليها سواء في حقبة العصر اليوناني أو ما قبلها، وظلت قائمة وتُستعمل في عصرنا الحالي. وتكفي الإشارة للمصطلح العربي “الجبر” الذي ابتكره الخوارزمي، وهو نفس المصطلح الذي تستعمله كل اللغات لنعت علم الجبر (Algèbre). نذكر كذلك الخوارزميات التي مكنت العلم من برمجة الحاسوب بعد وفاة الخوارزمي بعشرة قرون، وكانت وراء ظهور الإعلاميات. والخوارزميات مصطلح عربي اشتق منه الغرب مصطلح لوغارتمات (Algorithms) بالإنجليزية، لنعت برمجيات الحاسوب. وقد شكل تعريف الخوارزمي للرياضيات والخوارزميات قاعدة لفهم هذه العلوم ظلت تستعمل في عصرنا الحالي حيث يقول “الرياضيات هي لغة الكون والخوارزميات هي مفتاح فهمها”. ولم يستطع العالَم، بما وصل إليه من تقدم علمي، إنتاج قاعدة تتفوق على ما قاله أول عالم رياضيات.

    سعيد الغماز

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -6- .. كيبلر مؤسس علم البصريات الحديثة

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -6- .. كيبلر مؤسس علم البصريات الحديثة

    أكادير24 | Agadir24

    تعتبر الأبحاث التي قام بها ابن الهيثم في مجال البصريات، نقلة نوعية نحو تطور هذا العلم إلى أن وصل إلى إمكانية تصحيح البصر باستعمال النظارات، والقيام بجراحات على العين لتقويم النظر، ونذكر على الخصوص عملية إزالة “الجلالة”، حيث تمت أول عملية من هذا النوع سنة 1748.

    يمكن اعتبار علم البصريات من أقدم العلوم، فنجد بعض النظريات حول العدسات البصرية تعود لحقبة ما قبل التاريخ خاصة قدامى المصريين وسكان بلاد الرافدين. ربما يعود الأمر إلى إدراك فلاسفة تلك الحقبة أهمية العين في الرؤية وتيسير حياة الإنسان، فكان الاهتمام الكبير بها، الأمر الذي فتح المجال أمام ظهور علم البصريات. وضع فلاسفة اليونان نظريات حول الضوء والإبصار، التي أدت إلى تطور علم هندسة البصريات. لكن هذه النظريات كانت ضعيفة، وترتكز في بعض الأحيان على الخرافات التي كانت سائدة في العصر اليوناني القديم. فمثلا اعتبر الفيلسوف -إيمبيدوقليس- في القرن الخامس قبل الميلاد، أن أصل كل شيء في الطبيعة أربعة عناصر تقليدية: النار الهواء الماء والتراب. وهو ما شكل ثورة علمية في وقتها، لكنه اعتبر أن أفروديت (ربة الحب في المعتقد اليوناني) صنعَت العين البشرية من العناصر الأربعة، فجعلت النار تخرج من العين، ليتمكن الإنسان من الرؤية. وهو ما ذهب إليه علماء اليونان القدامى خاصة “إقليدس” و”بطليموس”، إلى أن جاء ابن الهيثم الذي يُعتبر في عصره من رواد المنهج العلمي، فصحح هذه النظرية بالقول إن الرؤية هي نتيجة انعكاس الضوء على الأشياء ليصل إلى العين، وهي النظرية التي بقيت سائدة في عصرنا الحالي. كما درس علم الضوء بطريقة جديدة لم يسبقه إليها أحد قبل، وقام بتوضيح قوانين الانعطاف والانكسار التي أعطت دفعة قوية لعلم البصريات. وكانت هذه الأبحاث تتمة لما قام به عالم الرياضيات اليوناني -بطليموس- الذي درس درجات الانكسار في أوساط الهواء والماء والزجاج ودوَّن نتائجه.

    اعتمد -يوهانس كيبلر- على أبحاث ابن الهيثم التي تفيد أن الانكسار الضوئي هو المسؤول عن الرؤية بالعين، واعتبر أن استخدام العينين يعطي إحساساً بالعمق. قام كيبلر، في القرن السادس عشر، بصنع نظارات للمصابين بقُربِ أو بُعدِ النظر، وشرح كيفية عمل التلسكوب. قام كيبلر كذلك بوصف الصور وعملية التكبير، كما أنه تعمق في فهم خواص الانعكاس. وكما فعل ابن الهيثم في نقضِ تصورات علماء اليونان -كإقليدس- و-بطليموس-، رفض كيبلر مبادئ أرسطوطاليس في الفيزياء ونقَضَها هو كذلك. قدم كيبلر العديد من الأبحاث والدراسات في علم البصريات، أبرزها كان كتابه الشهير “بعض البصريات الفلكية” الذي جعله يحصل على لقب مؤسس البصريات الحديثة.

    أهم إنجازاته:

    ◄ قام بالتحقيق في تكوين الصور بكاميرا ذات ثقب الدبوس معتمدا على أبحاث ابن الهيثم، وشرح كيفية عمل التلسكوب.

    ◄ شرح عملية الرؤية عن طريق الانكسار داخل العين، إضافةً لشرح كيفية استخدام كلتا العينين لإدراك العمق.

    ◄ صاغ تصميم النظارات لمشاكل قِصر النظر وطول النظر.

    ◄ وصف الصور والتكبير الحقيقي والافتراضي والمستقيم والمقلوب في كتابه “ديبوتريس”، وهو مُصطلح ما يزال يُستخدم حتى الآن.

    ◄ أول من اكتشف ووصف خصائص الانعكاس الداخلي الكلي.

    بعد أبحاث كل من ابن الهيثم في القرن 11، وكيبلر في القرن 16، عرف علم البصريات تحولات متسارعة. فبعد تصميم النظارات الذي قام به كيبلر، بدأت البشرية في استعمال زوج من النظارات يتم تجميعها بمسمار، ثم ظهرت أولى النظارات كما نعرفها حاليا سنة 1780 انطلاقا من فكرة الأمريكي -بينجمان فرانكلين-. وظهرت بعد ذلك العدسات اللاصقة في 1890. وفي سنة 1910، تمكنت شركة كارل زييس من ابتكار العدسة ثنائية البؤرة (Lentille à double foyer). ثم ظهر زجاج النظارات مصنوع من مادة بسيكلاس سنة 1936 من صنع الشركة الألمانية فاربين. وفي سنة 1945، تمكن الأمريكي -تيوهي- من ابتكار العدسة القرنية التي لا تغطي سوى قرنية العين. العدسة اللينة التي تستعمل في وقتنا الراهن ابتكرها التشيكي -ويشتيرلي- سنة 1964.

    وبفعل تطور صناعة البصريات، بدأت تظهر في الأسواق العديد من المنتوجات الجديدة كزجاج فاريلوكس  (Varilux) سنة 1959، النظارة الشمسية(verres solaires) سنة 1938 وهو ابتكار الأمريكي -إيدوين- مخترع آلة التصوير بولارويد. وسنة 1955 ظهر في الأسواق الزجاج الغير قابل للكسر والذي طورته الشركة الأمريكية جينتك سنة 1971.

    عملية القرنية تصورها في البداية المختص الكلومبي -باراكير-. بدأ إجراء هذا النوع من العمليات في اليابان منذ 1955، قبل تطويرها من طرف الروسي -فيودوروف-، وهي عملية تجعل صاحبها مستغني عن حمل النظارات.

    الكثير منا يستعمل مختلف النظارات لتحسين رؤيته أو لحماية عينيه من الشمس. لكن القليل من يعرف بأن فكرة النظارات لتصحيح الرؤية بدأت بأبحاث العالم اليوناني -بطليموس- في القرن الثاني، وتم تطويرها من قبل عالم العصر الإسلامي ومؤسس علم البصريات ابن الهيثم، وهي الأبحاث التي اعتمدها كيبلر في إنشاء علم البصريات الحديثة، ليتطور هذا العلم ويصل إلى ما نشاهده في عصرنا الحالي.

     سعيد الغماز

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -5- .. الغرفة المظلمة لابن الهيثم وعالم التصوير

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -5- .. الغرفة المظلمة لابن الهيثم وعالم التصوير

    أكادير24 | Agadir24

     

    شكلت التجارب التي قام بها ابن الهيثم، باستخدام الغرفة المظلمة لمراقبة كسوف الشمس، محددا رئيسيا في اختراع أول آلة تصوير ولو بالصدفة. لاحظ ابن الهيثم، وهو في غرفته أن الضوء القادم من شق صغير في زجاج النافذة انعكس على الجدار المقابل بشكل يشبه حالة صورة الشمس أثناء الكسوف. ولتطوير ملاحظته قام العالِم الموسوعي بإنشاء غرفة مظلمة زودها بثقب صغير، فتوصل إلى فكرة مهمة مفادها أن الضوء المنبعث من خلال الثقب ينعكس على المكان المقابل. ومن خلال خبرته استطاع تفسير أن الضوء المتنقل على شكل خط مستقيم، عندما ينعكس على أجسام براقة مرورا بثقب صغير، فإنه لا يتبعثر بل إنه يعبر الثقب ويُعيد تشكل نفسه. وبيَّن لاحقا أنه كلما كان الثقب صغيرا تكون الصورة المنعكسة أوضح. هذه الغرفة المظلمة التي سماها ابن الهيثم “القُمرة” لم تكن وراء اختراع آلة التصوير بل أعطتنا اسم “كاميرا” الذي أصبح على لسان كل مهتم بالتصوير.

    فبعد تجارب ابن الهيثم في القرن العاشر ميلادي، قام الإيطالي -ليوناردو دو فانتشي- (Léonardo de Vinci) بإعطاء تعريف واضح للغرفة المظلمة في القرن الخامس عشر، حيث اعتبر أن شعاع الشمس الواحد الذي يخترق ثقبا صغيرا، في غرفة مظلمة، يرسم في الحائط المقابل صورة مقلوبة للصورة الخارجية. كان هذا التعريف ملهما للفزيائي الإيطالي جيوم باتستا ديلا بورتا، لاستعمال الغرفة المظلمة في إنتاج الصور. وكان ذلك في النصف الثاني من القرن السادس عشر.

    لكن أول آلة تصوير ستظهر للعالم في 1816، وكان اختراعها بالصدفة من قبل -نيسيفور نييبسي-، الذي كان يشتغل على إعادة إنتاج رسوم ابنه، فإذا به يخترع أول آلة للتصوير. صور هذه الآلة كانت سريعة الزوال ولا تدوم إلا فترة قصيرة، مما جعل -نيسيفور- يضع طريقة جديدة سنة 1827، تقضي باستعمال صفيحة من القصدير المعالَجة لإنتاج الصور. وهي العملية التي كانت تتطلب 8 ساعات للحصول على الصورة الواحدة.

    بعد التفوق في إنتاج أول صورة من خلال أقدم آلة تصوير، ستتسارع الأبحاث والاكتشافات في هذا المجال. ففي سنة 1833 شرع الإنجليزي -هونري فوكس تالبو- في أبحاثه لاستعمال الورق بدل اللوحة المعدنية في إنتاج الصور. وفي سنة 1835، تمكن -جاك لويس ماندي- شريك -نييبسي- من اكتشاف طريقة جديدة لالتقاط الصور على لوحة معدنية. وكانت أبحاث الإنجليزي -تالبو- سببا في تمكن الفرنسي -هيبوليت بايارد- سنة 1839، من إنتاج أولى الصور على الورق. هكذا شهدت البشرية أول معرض للصور في 24 يونيو 1839. تابع الإنجليزي -هونري تالبو- أبحاثه إلى أن تمكن سنة 1840 من وضع الخطوات الأولى لفيلم الصور الذي يُتيح استخراج العدد الذي نريد من الصور، بدل الصورة الواحدة كما كانت تسمح به التقنيات المستعملة. هكذا دخلت البشرية عالم الإنتاج اللامتناهي من الصور. وفي 1888 سيُحدث الأمريكي -جورج إيستمان- ثورة في عالم التصوير، بصناعة آلة تصوير سهلة وخفيفة وغير مكلفة، أعطاها اسم “كوداك”. فأصبح كل فرد بإمكانه كسب آلته الخاصة والقيام بالتصوير بكل حرية وأريحية. أولى آلة التصوير كوداك كانت تُرسَل للمصنع الذي يقوم بتفريغها واستخراج الصور على الورق ثم تعبئتها من جديد، العملية كانت تستغرق 10 أيام. وقد استعملت شركة كوداك شعار “اضغط على الزر، نحن نقوم بالباقي” وهو ما مكنها من بيع 90.000 آلة تصوير في سنتها الأولى. مخترع آلة تصوير كوداك، تمكن سنة 1889 من صنع أول فيلم ملفوف (Film négatif) الذي أصبح جزءا من آلة التصوير. وهكذا بدأت أولى محلات التصوير لاستخراج الصور تظهر للوجود لتنتشر في أرجاء العالم. آلة التصوير كوداك عمَّرت حتى ظهر التصوير الرقمي والتصوير عبر الهاتف النقال، فأصبحت متجاوزة لتخضع للسنن الكونية وتنقرض من الوجود.

    في 1948 ستعرف صناعة آلات التصوير ثورة جديدة حين تمكن الأمريكي -إيدوين هيربير- من طرح أول آلة للتصوير الآني “بولارويد” والتي عمَّرت إلى حين ظهور الصورة الرقمية لتطوي نهائيا مرحلة صور بولارويد.

    بعد هذا التاريخ الحافل الذي عرفته تقنيات التصوير منذ أبحاث ابن الهيثم حول الغرفة المظلمة حتى آلة تصوير بولارويد، عرف مجال التصوير نقلة نوعية بانخراطه في الجيل الرابع للصناعة، المعتمد على التقنيات الرقمية. فظهرت للوجود آلات التصوير الرقمي التي جعلت الصورة تنتقل من صورة ثابتة وجامدة، إلى صورة متحركة يمكن تغييرها بشكل لا متناهي، والتلاعب بها كما نريد باستخدام برمجيات الحاسوب. هذا هو العصر الذي نعيشه الآن في انتظار عصرٍ قادم بدأت معالمه تتضح بتطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

    سعيد الغماز

     

     

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -4- .. ابن الهيثم مؤسس علم البصريات

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -4- .. ابن الهيثم مؤسس علم البصريات

    أكادير24 | Agadir24

    ابن الهيثم، من أبرز علماء العرب العباقرة في القرن العاشر الميلادي، عاش في البصرة منارة ومركز العلوم عند العرب قديمًا، ثم انتقل إلى مصر.

    كانت أبرز اختراعات ابن الهيثم في مجال البصريات، حيث كان واحدًا من أهم العلماء والمخترعين في عصره. رفض ابن الهيثم نظرية كلًا من علماء اليونان القدامى “إقليدس” و”بطليموس” التي تقول بأن الضوء يخرج من العين. فقام بالعديد من الأبحاث والتجارب، وأثبت بمهاراته أن الإنسان يرى الأشياء نتيجة انعكاس الضوء على الأجسام ثم يرتد إلى العين والشبكية وهنا تحدث الرؤية. كما وضع ابن الهيثم، قوانين الانعطاف والانكسار. وقد شكل هذا الاختراع في وقته، ثورة كبيرة في علم البصريات، فتحت الباب واسعا أمام العلماء المختصين، لتطوير نظرية ابن الهيثم وجعلها علما قائما بذاته يُعرف في عصرنا بعلم البصريات.

    لم تقتصر أبحاث ابن الهيثم على هذه النظريات، بل عمَّق أبحاثه في مجال تخصصه، وشرح نظرية الظل، وقدم تفسيره للرؤية عن طريق العين بأنها تكون نتيجة اتصال كل من الدماغ والعصب البصري. ابن الهيثم أول من قال إن العدسة المحدبة ترى الأشياء أكبر مما هي عليه، وهو ما كان وراء ابتكار “المُكبِّرة” التي ساعدت البشرية على إجراء التجارب على الأجسام الصغيرة جدا. وهو أول من شرح تركيب العين ووضَّح أجزاءها بالرسوم وأعطاها أسماء أخذها عنه الغربيون وترجموها. وقد ساهمت نظرياته هذه بشكل كبير، في اختراع آلة التصوير التي تُعد واحدة من أهم الإنجازات الحديثة في وقتنا الراهن.

    أهم إنجازاته:

    ◄من أبرز إنجازات الحسن بن الهيثم، أنه درس علم البصريات وساهم في تطويره بشكلٍ كبير، حيث أثبت أن العين تُبصر بواسطة انعكاس الإشعاع من الأشياء أو الأجسام على العين، وليس بسبب انبثاق شعاع من العين على الأشياء، ليبطل بذلك النظرية اليونانية التي ذهب إليها إقليدس وبطليموس.

    ◄كانت اكتشافات ابن الهيثم سببا في اختراع آلة التصوير، وذلك عن طريق التجارِب التي أجراها باستخدام الغرفة المظلمة.

    ◄وضح قوانين الانعطاف والانكسار التي أعطت دفعة قوية لعلم البصريات.

    ◄درس ابن الهيثم علم الضوء بطريقة جديدة لم يسبق إليها أحد قبله.

    ◄كانت له اكتشافاته في علم الفلك، وترك فيها ما يزيد عن عشرين رسالة.

    ◄يُعد ابن الهيثم من رواد المنهج العلمي.

    ◄ابن الهيثم من أوائل الفيزيائيين التجريبيين الذين تعاملوا مع نتائج الرصد والتجارب فقط في محاولة تفسيرها رياضيًا.

    قبل انتقال الحسن بن الهيثم للعيش في مصر، كانت له نظرياته في إمكانية تنظيم فيضانات النيل، التي كانت تؤرق المصريين وتتسبب لهم في خسائر كبيرة في الزراعة والأرواح. وعندما سمع الخليفة الفاطمي “الحاكم بأمر الله” بنظريات ابن الهيثم هذه، أمره بتنفيذ نظرياته، لكنه فوجئ باستحالة تطبيقها. وهو أمر معروف لدى كبار المخترعين الذين يقومون بالعديد من التجارب الفاشلة، قبل الوصول لاختراع قد يؤثر على العالم بأسره. وهو ما حدث لمخترع الكهرباء، وكذلك لغراهام بيل الذي أراد اختراع آلة لتحسين السمع لدى الصم، فإذا به يخترع الهاتف الذي شكل ثورة غيرت حياة البشر.

    من أبرز مؤلفات ابن الهيثم في علم البصريات كتابه “المناظر” الذي كتبه في عشرة أْعوام وقد شكل هذا الكتاب في وقته، ثورة علمية كبيرة، تمت ترجمته للعديد من اللغات خاصة اللاتينية ليستفيد منه علماء الغرب فيما يعرف بالثورة الصناعية. هذا الكتاب ألفه ابن الهيثم سنة 1015 ميلادية ويشتمل على بحوث في الضوء، وتشريح العين، وتوضيح كيفية رؤية الأشياء.

    سعيد الغماز

  • فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -3-..  كارل ريتر مؤسس الجغرافيا الحديثة

    فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -3-.. كارل ريتر مؤسس الجغرافيا الحديثة

    أكادير24 | Agadir24

    شكلت خريطة العالَم التي أنجزها الشريف الإدريسي في القرن 12 ميلادي، دفعة قوية في تطوير علم الجغرافيا الذي تفرعت عنه الكثير من العلوم كالسكان والأرصاد الجوية والملاحة البحرية. هذه التطورات التي ساهم فيها العديد من العلماء كانت وراء الكشوف الجغرافية التي قام بها كولومبوس مكتشف أمريكا في 1492، وفاسكو دي غاما الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح لبلوغ الهند عام 1497، بمساعدة البحار بارثولوميو دياز. وأكدت هذه الاكتشافات للناس كروية الأرض بعد الجدال الذي خلقته الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى.

    تكاثفت جهود العلماء فأصبح للجغرافيا تعريفا جديدا يتحدد في “علم دراسة الأرض”، وتعتبر التفاعلات بين الإنسان والبيئة هي اختصاصات الجغرافيين. وكباقي العلوم، تفرعت عن الجغرافيا الكثير من التخصصات حيث أصبح الجغرافيون يدرسون المجتمع البشري والبيئة الطبيعية والتطور السكاني، إضافة إلى دراسة العلاقة المتبادلة بين المجتمع والبيئة. مثال على ذلك يقوم الجغرافيون بدراسة كيف يؤثر المجتمع البشري على البيئة الطبيعية، وكيف تؤثر البيئة الطبيعية على المجتمع البشري من جهة أخرى.

    في عصرنا الحديث، يعتبر الجغرافي الألماني كارل ريتر (Carl Ritter)‏ الذي ولد عام 1779م في ألمانيا، من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة. كما أنه واضع أسس الجغرافيا التجريبية وله مؤلفات عديدة في علم الجغرافيا، كما له اهتمام بالخرائط ومنها خارطة للجزيرة العربية حدد فيها أسماء الأقاليم وما فيها من القرى والمدن والجبال، وتحدث في أحد كتبه عن الجزيرة العربية. درس اللاتينية واليونانية لكي يستطيع أن يطلع على المزيد من المعلومات عن العالَم، علما أن العديد من كتب علماء الجغرافيا كالشريف الإدريسي والخوارزمي تُرجمت لهذه اللغات في عصر النهضة العلمية.

    وتتمثل الإضافة النوعية لكارل ريتر في مجال الجغرافيا، ما نقله في مؤلفه الجغرافي عن الجزيرة العربية وما طرحه من معطيات وأرقام لم يألفها علماء عصره. فقد جمع العديد من المعلومات لم يسبقه إليها أي من المؤرخين، ومنها على سبيل المثال نقل الإحصاءات لقبائل البادية، وأسماء شيوخها، وفرسانها، ومنشآتها، وكذلك ذكره لبعض أسماء بلدان الحاضرة وعدد سكانها من حملة السلاح وعدد النساء والأطفال. وبذلك يكون كارل ريتر قد أعطى بعدا آخر للجغرافيا وأسس لمفهوم جديد لعلم الجغرافيا الحديثة.

    إلى جانب أبحاث كارل ريتر، عرف علم الجغرافيا تطورات متسارعة ساهم فيها العديد من العلماء الجغرافيين على غرار ألكسندر فون همبولت الذي خطط للرحلات واستكشاف أمريكا الجنوبية واكتشف أثناء تواجده في الساحل الغربي في قارة أمريكا الجنوبية “التيار البيروفي” الذي أطلق عليه “تيار هومبولت”. كما كتب عن الانحراف المغناطيسي، وقام بإنشاء مراصد الطقس بروسيا، واستخدم البيانات لتطوير مبدأ القارية، وقام بتطوير أول خريطة متساوية الحرارة. وكذلك فلاديمير بيتر كوبن الذي اشتهر بأعماله في علم المناخ وتصنيف أنواعه. نذكر كذلك العالم الصيني يي فو توان الذي أسس لعِلْم “الجغرافيا الإنسانية” من خلاله دمَج الجغرافيا البشرية مع العلوم الأخرى مثل الدين والفلسفة والفن وعلم النفس. وتهدف الجغرافيا الإنسانية إلى دراسة التفاعلات بين الإنسان والبيئة والفضاء على المستويين الاجتماعي والمادي. أما أرنولد هنري جويرت فقد قدم العديد من الملاحظات الدقيقة حول الحركة والبنية الجليدية، وبنى نظرية التجلد كما ساعد على التنبؤ بالطقس من خلال الملاحظات التي قدمها حول الأرصاد الجوية. وليام موريس دينيس الذي أُطلق عليه لقب أبو الجغرافيا الأمريكية، هو من طور علم الجيو-مورفولوجيا الحديث، وطوَّر نظرية تآكل الدورة في هذا العلم. نذكر في الأخير محمد بن موسى الخوارزمي الذي اشتهر في القرن التاسع ميلادي، بعلمه وإسهاماته في العديد من المجالات المختلفة مثل الرياضيات والفلك بالإضافة إلى الجغرافيا. اقتبس العديد من أعمال بطليموس، وقام بتأليف كتاب بعنوان ” كتاب وصف الأرض” وهو عبارة عن مجموعة من آلاف الإحداثيات للمدينة، وتمكن من تصحيح العديد من القياسات الخاطئة التي قام بها بطليموس مثل تقديرات حجم البحر المتوسط.

    هكذا إذا تطور علم الجغرافيا الحديثة، بعد الابتكارات الكبيرة للشريف الإدريسي، فأصبح العالَم يتحدث عن ثلاثة أنواع من الجغرافيا:

    -1-الجغرافيا البشرية وهي فرع يهتم بدراسة الجنس البشري حيث يهتم بدراسة العرق البشري وأصولهم وتصوراتهم والتفاعلات بينهم وبين الأيديولوجيات بمختلف أنواعها التي تؤثر عليهم. وتحتوي الجغرافيا البشرية على العديد من الفروع مثل الجغرافيا السكانية، والجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا الطبية، الجغرافيا الدينية، الجغرافيا السياسية.

    -2-الجغرافيا الطبيعية وهي التي تتعامل مع الخصائص الفيزيائية للأرض، وتحتوي على الجغرافيا الحيوية، جغرافيا الموارد البشرية، جغرافيا المناخ، الجيومورفولوجيا، جغرافيا التربة.

    -3-الجغرافيا البيئية هي المختصة بدراسة جميع الجوانب المكانية التي تخص التفاعلات بين البشر وبيئتهم بشكل مباشر والنتائج التي تترتب عن هذا التفاعل.

    سعيد الغماز