فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -8- .. الخوارزمي والذكاء الاصطناعي

AI كُتّاب وآراء

أكادير24 | Agadir24

الخوارزمي شخصية لها مكانة كبيرة في التاريخ وفي عصرنا الحاضر كذلك، لارتباط أعماله بما يشهده عصرنا في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. فالعديد من المختصين يذهبون إلى أن كل هذا التقدم الذي يشهده العالم لم نكن لنصل إليه لولا مساهمات الخوارزمي، وعلى رأس هؤلاء المختصين المؤرخ البلجيكي -جورج سارتن- الذي حين كان يضع الأسس الأولى لعلم تأريخ العلم، استوقفته مؤلفات الخوارزمي فقال عنه “إنه أعظم علماء الرياضيات في عصره، وواحد من العظماء في التاريخ إذا ما أخذنا كل الظروف بعين الاعتبار”.

قد يبدو للبعض أن ربط اسم الخوارزمي الذي ينتمي للقرن التاسع ميلادي، بتكنولوجيا معقدة مرتبطة بالقرن الواحد والعشرين، ربط مبالغ فيه. لكننا نقول إن هذا الاعتقاد مرده إلى افتقاره الإلمام بمنجزات الخوارزمي من جهة، وابتعاده عن المقومات العلمية التي تقوم عليها التكنولوجيا الحديثة. فإذا كان اختراع المحرك البخاري في النصف الثاني من القرن 18 قد أعطى الانطلاقة العلمية للثورة الصناعية، فإن اختراع الترانزستور في منتصف القرن العشرين أعطى الانطلاقة العلمية للثورة الرقمية التي سمحت بظهور علم الذكاء الاصطناعي. وإذا علمنا أن الترانزستور الذي ساهم في ظهور الكمبيوتر وعلم الإعلاميات، يستعمل لغة ثنائية هي 0 و1، وأن مخترع الصفر هو الخوارزمي، نتأكد بأن ربط عالِم الرياضيات الأول بالثورة الرقمية، هو خاضع لمنطق العلم وحقيقة التاريخ. وإذا علمنا أن الكومبيوتر الذي كان وراء ظهور الذكاء الاصطناعي، يعتمد على الخوارزميات التي وضع أسسها الخوارزمي، تزيد قناعتنا بأن نظريات الخوارزمي في الرياضيات هي أصل الثورة الرقمية في القرن 21.

قبل ظهور الذكاء الاصطناعي، عرف العالم ثورة علمية في المجال الرقمي، فأصبحت الرقمنة حاضرة في كل فعل إنساني. لكن مجال فعل التكنولوجيا الرقمية، يقتصر على موضوع المعطيات، وتتميز بالتفوق الكبير على العقل البشري بقدرتها على معالجة تلك المعطيات بسرعة هائلة، وجعلها بيانات قابلة للاستعمال، ومعلومات ذكية تساعد على الابتكار. لكن مع بروز ما أصبح يُعرف بالذكاء الاصطناعي، انتقلت التكنولوجيا الرقمية من مرحلة معالجة المعطيات، إلى مرحلة إنتاج المعرفة ومنافسة العقل البشري ليس في سرعة التعامل مع المعطيات فحسب، وإنما في التفكير والتحليل واتخاذ القرارات.

لقد ساهمت المرحلة الأولى (مرحلة معالجة المعطيات) في تمكين التكنولوجيا الرقمية من كم هائل من المعطيات والبيانات. خلال هذه المرحة كان الذكاء الاصطناعي يصاحب العقل البشري في الابتكار وتطوير التكنولوجيا الرقمية. هذه الأخيرة جعلت العالم يتحول إلى بنك من المعلومات يستحيل على العقل البشري تحليلها ومعالجتها لتصير بيانات قابلة للاستهلاك والاستعمال. إنها مرحلة إنتاج المعلومات والمعطيات بامتياز، وهذا ما خلُصت له دراسة قام بها معهد “ماكنزي العالمي” تفيد أن حجم البيانات يتزايد بمعدل 40 % سنويا، وأن هذا الحجم في 2020 بلغ 50 مرة ضعف ما كانت عليه في 2009 حسب تقدير نفس المعهد. كما أن تحاليل الخبراء تُجمِع على أن 90 % من البيانات التي أنتجتها البشرية منذ القدم وإلى حدود الساعة، تم إنتاجها بعد ظهور شبكة الأنترنيت والشبكات الاجتماعية. هذه الأرقام تجعلنا نعرف بالملموس حجم البيانات التي أصبحت تتناثر عبر العالم، وكيف صارت مصدر تنافس دولي، بل وصراع بين الدول خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. هنا برزت الحاجة إلى التعاطي مع الحلول الرقمية، وأصبح التحول الرقمي ضرورة تكنولوجية لكل بلد يريد الانخراط في التنمية وتطوير قدراته الاقتصادية. فمجال الرقمنة أصبح يحتل مكانة كبيرة وأساسية في جميع المنتوجات التي توَصَّل إليها العقل البشري.

المرحلة الثانية في تطور التكنولوجيا الرقمية هي مرحلة إنتاج المعرفة. خلال هذه المرحلة نلاحظ تراجع العقل البشري مقابل سيطرة الذكاء الاصطناعي. فبنك المعطيات العالمي أصبح يتوفر على كمٍّ لامتناهي من المعلومات تكون عصية على العقل البشري، لكنها في غاية السهولة بالنسبة للذكاء الاصطناعي، لأنه أصبح يتمتع بقدرات خارقة تسمح له بمعالجة الملايير من المعطيات في ثوان محدودة. هذه القدرات الخارقة بمنطق التفكير البشري، جعلت الذكاء الاصطناعي بإمكانه منافسة العقل البشري في الابتكار وإنتاج المعرفة بل حتى في الاختراع. لتوضيح الصورة أكثر يكفي أن نشير إلى التطبيق الجديد ChatGPT الذي أصبح بإمكان أي شخص أن يطلب منه عملا فيوفره له في ثوان، بدل جهد بشري قد يتطلب أياما وشهورا.

بدأ الذكاء الاصطناعي يغزو العالم، فأصبحنا نتحدث عن الروبوت الذكي والسيارة الذكية والتطبيقات الذكية، بل وحتى الحكومة الذكية والمدينة الذكية وهو المثال الذي سنستعمله لإيضاح علاقة أبحاث الخوارزمي بالذكاء الاصطناعي الذي نعيش تفاصيله في وقتنا الراهن. يُعرِّف الاتحاد الدولي للاتصالات (UIT) المدينة الذكية على أنها “مدينة مبتكِرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة، مع ضمان تلبية احتياجات الأجيال الحالية والقادمة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية”. هذا المفهوم تطرق له الخوارزمي في القرن التاسع حين قال “التحليل الرياضي يجعل العالم أفضل وأكثر فهما” وقوله أيضا “العلم والرياضيات هما مفتاح الابتكار والتطور”. هكذا يكون العلم والرياضيات في نظر الخوارزمي يجمعان بين الابتكار وجودة الحياة، وهو ما ذهبت إليه مؤسسة الاتصالات الدولية بعد 11 عشر قرنا على أقوال الخوارزمي. لقد اعتبر الخوارزمي منذ القرن التاسع أن الرياضيات تساهم في معالجة تحديات الحياة وتخلق فرصا للتطور، وهو ما نجده بصريح القول حين قال “التحديات الرياضية تمنحنا أدوات لحل التحديات في حياتنا” وقوله كذلك “الابداع الرياضي يخلق فرصا للتجديد والتطور”. وبالفعل، فإن تطور الرياضيات جعل البشرية تعيش عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. ويعتبر الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لا يحده سوى قدرة الإنسان على الابتكار، وهو ما يتوافق مع مقولة الخوارزمي “الابتكار في علم الحساب، يفتح آفاقا لا حدود لها”.

على هذا الأساس يمكننا القول إن الخوارزمي قد سبق زمانه بأكثر من 10 قرون، وأن اختراعه لرقم 0 وللخوارزميات، وتظافر جهود العلماء في مختلف بقاع العالم وحقبه التاريخية، هو ما جعلنا نعيش عصر الذكاء الاصطناعي.

    سعيد الغماز

التعاليق (0)

اترك تعليقاً