فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -14- .. ابن سينا مبتكر الفحص الإكلينيكي الطبي

فسحة رمضان

أكادير24 | Agadir24

استهواه علم الطب منذ صغره، وتمكن من وضع أسس علمية للطب التجريبي، واخترع كثيرا من الأدوية من الأعشاب وغيرها. كان يقوم بتجريب الأدوية أولا على الحيوانات، وحين يتوصل إلى أنها أثبتت فعاليتها، وتأثيرها على المرض عند الحيوانات، يقوم بتجريبها على الإنسان ويدون تأثيرها على الأمراض المختلفة. وبذلك يكون ابن سينا أول من وضع هذا النظام في العالم. كان حريصا على الكشف والفحص الطبي لجسم الإنسان منذ القرن 11، وهي الطريقة المعروفة في وقتنا الراهن بالفحص الإكلينيكي.

لقد شكل كتاب ابن سيا “القانون في الطب” ذروة المعرفة الطبية في عصره. تحدث فيه عن التشريح والجراحة والأدوية، وهي المعارف الطبية التي ظلت سارية لعقود، واستفاد منها الأطباء في عصر النهضة التي عرفتها أوروبا. كان ابن سينا يستخدم بعض الأعشاب كالخزامى مثلا لمقاومة بعض الأمراض المرتبطة بالباكتيريا رغم عدم علم أطباء عصره بالباكتيريا. وما زالت الأعشاب التي وصفها ابن سينا في كتابه “القانون في الطب” تُستعمل في عصرنا الحالي، كما أنها تشكل مرجعا في الكثير من العلاجات.

قوة ابن سينا الطبية تكمن في تدوينه لكل الحالات المرضية وتفصيل تشخيص المرض، وهو ما جعله يتفوق في تشخيص مرض الصَّرَع وهبوط ضغط الدم المفاجئ، ويُعتبر أول من اكتشف الطفيلية المعروفة بالدودة المستديرة. شخَّص كذلك ابن سينا الحزام الناري أو “النار الفارسية”. وقمة ابتكار ابن سينا هو أنه أول من شخَّص الفرق بين المَغَص المَعَوي والمَغَص الكَلَوي. كما أنه أول من أعطى تشخيصا دقيقا عن التهاب الأضلاع والالتهاب الرئوي، فضلا عن كونه أول من أجرى عملية فتح القناة الدمعية في العين باستعمال مسمار رفيع ومعقم.

كان ابن سينا أحد أهم الظواهر الفكرية، لَخَّص عبقريته الطبية في كتابه “القانون في الطب” الذي فصله إلى خمسة أجزاء، وكان مرجعا أساسيا في كل جامعات أوروبا حتى القرن 18. في الجزء الأول تحدث عن الطب الكُلِّي وحدوده وأبعاده وفصَّل فيه أنواع العظام والأمراض. تحدث في الجزء الثاني عن الأدوية وتطرق فيه لتفسير الدواء وتحديد مفعوله وتأثيره. في الجزء الثالث تحدث ابن سينا عن الأمراض بعينها وكل الأمراض التي اكتشفها من الرأس حتى أخمص القدمين. الجزء الرابع خصصه لبعض الأمراض مثل الجُذام والأورام والكسور وأنواعها مع كيفية جبرها. وفي الجزء الخامس والأخير تحدث عن الأدوية المركبة. ولتيسير فهم كتابه من طرف طلابه، لخَّص ابن سينا تلك المعارف الطبية في أبيات شعرية اشتهرت بأُرجوزة الطب لابن سينا تبلغ 1329 بيتا شعريا. وبذلك يكون ابن سينا أول من استعمل الأداة الشعرية في تدريس العلوم الطبية.

لتقريب القارئ الكريم من أُرجوزة الطب هذه، وتبيانا لقيمتها العلمية والبلاغية، نستعرض بالتفسير بعض الأبيات من قصيدته. في البيت الأول يعرض الهدف من قصيدته الشعرية حيث جاء فيه:

أَبْدَأُ بِاسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ فِي نَظْمٍ حَسَنْ       أَذْكُرُ مَا جَرَّبْتُ عَلَى طُولِ الزَّمَنْ

ثم عرض أبياتا يفسر فيها معنى الطب وأقسامه استهلها بالأبيات الشعرية:

الطِّبُّ حِفْظُ صِحَّةٍ بُرْءٌ مَرَضْ         مِنْ سَبَبٍ فِي بَدَنٍ مُنْذُ عَرَضْ

قِسْمَتُهُ الأُولَى بِعِلْمٍ وَعَمَلْ               وَالعِلْمُ فِي ثَلاَثَةٍ قَدْ اِكْتَمَلْ

سَبْعُ طَبِيعَاتٍ مِنْ الأُمُورِ               وَسِتَّةٌ وَكُلُّهَا ضَرُورِي

ثُمَّ ثَلاَثٌ سُطِّرَتْ فِي الكُتُبْ            مِنْ عَرَضٍ وَمَرَضٍ وَسَبَبْ

 

في البيت الثاني يقسم ابن سينا الطب إلى قسمين: الطب العلمي النظري، والطب العملي التطبيقي. ثم يشرح الثلاثة أمور التي يكتمل بها الطب وهي: الطبيعات السبع (سيفسرها الطبيب الشاعر في أبيات لاحقة ويحددها في: الأركان والمزاج والأخلاط والأعضاء والأرواح والقوى والأفعال)، والستة الضرورية وهي: تأثير الهواء والشمس، المأكل والمشرب، النوم واليقظة، الحركة والسكون، الاستفراغ والاحتقان، الغضب والفزع (كلها يفسرها ابن سينا في أبيات شعرية). والأمر الثالث الذي يكتمل به علم الطب فهو ما وصفه بالثلاثة التي سُطِّرت في الكتب وهي: المرض وأعراضه وأسبابه.

ثم يضيف ابن سينا الأبيات التالية:

وَعَمَلُ الطِّبِّ عَلَى ضَرْبَيْنِ             فَوَاحِدٌ يَعْمَلُ بِاليَدَيْنِ

وَغَيْرُهُ يَعْمَلُ بِالدَّوَاءِ                    وَمَا يُقَدَّرُ بِالغَذَاءِ

 

في هذين البيتين يحدد ابن سينا طبيعة تدخل الطبيب وهي في حالتين: حالة التدخل الجراحي وهو ما وصفه بالعمل باليدين، وحالة العلاج بالدواء أو الغذاء. وهو التقسيم الطبي الذي ما زال معمولا به في عصرنا الحالي.

لم يكتف ابن سينا في تأليف أحد أهم الكتب في الطب الذي ظل ملهما للأطباء لعقود، بل ما زال مرجعا في عصرنا الحالي في مجال الأعشاب واستعمالاتها. إننا بحق أمام موسوعة طبية وبلاغية وفلسفية قلَّ نظيرها في جميع العصور. وهي القيمة التي جعلته يُلقب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، وأمير الأطباء وأرسطو الإسلام.

      سعيد الغماز

 

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً