فسحة رمضان مع العلم والاختراعات الحلقة -12- .. ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية

Ibn al Nafis كُتّاب وآراء

أكادير24 | Agadir24

اهتمت البشرية منذ القدم بالطب، وذلك لضرورة مجتمعية مرتبطة بالحاجة إلى معالجة الأمراض التي يعاني منها الإنسان والبحث عن الدواء المناسب، وتخفيف الآلام عند الضرورة. بداية الطب ترجع لعصر ما قبل التاريخ، حيث كان المريض يأخذ الدواء على شكل أعشاب، مصحوبا ببعض التعاويذ المرتبطة بالسحر والشعوذة. إلا أن ممارسة الطب بطرق علمية بدأ مع المصريين القدامى، الذين كانوا يمارسون الطب بمفاهيم علمية قائمة على أساس التشخيص والتكهن والفحص السريري ثم العلاج. وكانت ممارسة الطب في عهد المصريين متخصصة لدرجة أن كل طبيب مسؤول عن علاج مرض واحد لا أكثر. يعود ذلك إلى 3000 سنة قبل الميلاد.

في الحقبة اليونانية عرف الطب مستجدات كثيرة خاصة مع أبقراط في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو من ابتكر نظام اليمين الطبي الذي ظل قائما حتى في عصرنا الحالي على شكل قسم أبقراط. كما أنه ابتكر تشخيصات طبية هامة تخص مرض الرئة المزمن، سرطان الرئة وأمراض القلب. وهو من أعطى أول وصف لتضخم الأصابع، لهذا يصف الأطباء في وقتنا الحاضر الأصابع المتضخمة بأصابع أبقراط.

الطب الصيني ترك هو الآخر بصمته في تاريخ تطور الطب، حيث ازدهر في هذا العهد طب الأطفال وطب العيون وطب الأسنان بالإضافة إلى طرق التوليد المتطورة في عصرها. كما تطور الدواء بالأعشاب في الصين حيث أبدع الأطباء الصينيون مقولة “الأعشاب في فم سليم غذاء، وفي فم مريض دواء”. ومن أشهر أطباء الصين -هوانغو- صاحب علاج الأمراض عن طريق الوخز بالإبر.

استفاد العلماء في العصر الإسلامي من هذا الإنتاج البشري في مجال الطب لتطوير الأبحاث والعلاجات. وكان اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدوران الرئوي) من قبل العالِم والطبيب -ابن النفيس- ثورة علمية كبرى في وقتها، فتحت المجال واسعا ليشمل الطب كل أجزاء الإنسان. قبل قرون، كان العلماء يبحثون عن كيفية انتقال الدم من البُطين الأيمن إلى البُطين الأيسر داخل القلب. إلا أن جاء الطبيب اليوناني الشهير جالينوس وقال إن الدم ينتقل من البُطين الأيمن مباشرة إلى البُطين الأيسر عن طريق مسامات دقيقة في الغشاء الفاصل. وهو ما جعل الطبيب اليوناني يعتقد خطأ أن الدم يتولد في الكبد، ومنه ينتقل إلى القلب ويمر عبر المسامات لينتقل من البُطين الأيمن إلى البُطين الأيسر، وقد تبنى أطروحته الطبيب والفيلسوف ابن سينا.

بقيت هذه الاعتقادات الخاطئة سائدة لعدة قرون إلى أن جاء ابن النفيس بدراسات علمية وفندها. في القرن 13 ميلادي، بعد دراسته لمسار الدّم في العروق وسريانه في الجسم، استطاع ابن النفيس أن يصف الدّورة الدّمويّة بدقّة لأول مرة في التاريخ. وهو ما جعله يكسب الجرأة اللازمة لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه أحد أشهر الأطباء اليونانيين، ويُثبت أن الدم يخرج من البُطين الأيمن إلى الرئتين حيث يُنقَّى ثم يعود إلى القلب عن طريق البُطين الأيسر، وهو ما يعرف بالدورة الدموية الصغرى. كما أثبت العالِم والطبيب، أن الجدار الفاصل بين البُطين الأيمن والأيسر هو جدار صلب لا يحتوي على المسامات، مفندا ما ذهب إليه جالينوس. وقد شرح ابن النفيس الدورة الدموية بشكل دقيق في كتابه المسمى “شرح تشريح القانون” حيث أكد فيه مدى العلاقة بين علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا). كان ذلك قبل أن يُنسب هذا الابتكار للطبيب البريطاني -وليام هارفي- الذي توفي سنة 1657، علما أن الطبيب الإيطالي -ألباجو- ترجم كتاب ابن النفيس الذي فسر فيه الدورة الدموية، إلى اللغة اللاتينية سنة 1547، وهو الكتاب الذي سبق أبحاث -وليام هارفي- بحوالي 400 عام.

لقد شكل ابتكار ابن النفيس للدورة الدموية ثورة حقيقية في تاريخ الطب، أعطت لهذا العلم دفعة قوية في فهم كيفية اشتغال أعضاء الجسم البشري، وتطوير علاجات الأمراض. أبحاث ابن النفيس امتدت إلى علم تشريح القلب، وهو أول من تكلم عن تغذية العضلة القلبية من الشرايين الإكليلية أو التاجية، ودعا إلى دراسة ما يدعى التشريح المقارن (Comparative Anatomy) لفهم التشريح البشري. لم يكتف ابن النفيس من نقض أخطاء أطباء العصر اليوناني، بل فند كذلك بعض نظريات ابن سينا خاصة فيما توصل إليه هذا الخير بخصوص غذاء القلب. يقول ابن النفيس عن ابن سينا “وجعلِه للدم الذي في البطن الأيمن، منه يتغذى القلب لا يصلح البتة، فإن غذاء القلب إنما هو من الدم المنبث منه من العروق المنبثة في جرمه…”. وبذلك يكون ابن النفيس أول من تحدّث عن تغذية العضلة القلبيّة من الشّرايين التّاجيّة، وسبق بنظريته هذه -ريالدو كولومبو- الطبيب الإيطالي الذي أسند اكتشاف هذه النظرية لنفسه، فقد عاش كولومبو في القرن 16 بينما تعود نظريات ابن النفيس إلى القرن 13.

إلى جانب دراساته في تشريح القلب، امتدت أعمال ابن النفيس إلى دراسة وظيفة الإبصار في العين، وهو صاحب المقولة الشهيرة “إن العين آلة للبصر، وليست باصرة، وإلا لرُئي الواحد بالعينين اثنين، وإنما تتم منفعة هذه الآلة بروح مدرك يأتي من الدماغ”، وكان إدراج الدماغ في عملية البصر، حدثا متقدما في عصره. ولابن النفيس كذلك نظريات صائبة في فيزيولوجيا الرؤية، وهو يفرق بين فعل الإبصار والتخيل، ويقول إن لكل من هذين الفعلين مركزا خاصا في الدماغ. وأعطى الطبيب العالِم وصفا دقيقا للقرنية حيث يقول إنها مؤلفة من أربع طبقات، وإنها شفافة “لا تحتوي على عروق دموية لئلا يتغير إشفافها”.

كما أن ابن النفيس هو أول من أشار إلى الاعتدال في تناول الملح، وقدّم أدق الأوصاف عن أخطار الملح وتأثيره في ارتفاع ضغط الدم، وأبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين ووظائفها.

لقد كان فعلا ابن النفيس مبتكرا ومخترعا، ظلت ابتكاراته قائمة حتى عصرنا الحال. فإلى جانب ما ذكرناه سالفا، يعود إلى ابن النفيس تحديد الشروط التي يجب مراعاتها عند استعمال الأدوية، ومنها الوقت الصّحيح لاستخدام الدّواء ومقداره. وهي نظريات يستعملها الطب في عصرنا الحالي.

    سعيد الغماز

 

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً