سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
من بين المواضيع التي تطرقت لها فلسفة ابن رشد إشكالية العقل والنقل وهو ما تطرق له كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”. فابن رشد إلى جانب كونه فيلسوفا كبيرا، فهو في نفس الوقت فقيه وقاضي الشرع سليل عائلة علمية متدينة أندلسية عريقة. وبذلك يكون يتوفر على المؤهلات الفكرية والمعرفية للخوض سواء في موضوع النقل أو موضوع العقل.
يُقر فيلسوف قرطبة بوجود اتصال بين الدين والفلسفة ولا يرى تعارضا أو انقطاعا بينهما. يقول ابن رشد في هذا الموضوع “وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني (أي الدليل العقلي) إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يُضاد الحق بل يوافقه ويشهد له”.
يرى ابن رشد أن للنص الديني معنى ظاهر ومعنى باطن. المعنى الظاهر هو متاح لعامة الناس من المسلمين، فيما المعنى الباطن هو من اختصاص الحكماء والفلاسفة القادرين وحدهم على سبر أغوار النص وإظهار ما خفي منه. بناء عليه يعتبر فيلسوف قرطبة العقل حاكما على النص، وطَرَح مسألة التأويل كمنهج للخروج من هذه الإشكالية. ومعنى التأويل في نظر ابن رشد هو “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية (الظاهرة) إلى الدلالة المجازية (الباطنة)”.
لكن ابن رشد لا يعتبر التأويل اعتباطيا ولكن له قواعد وضوابط وأصول، وبالتالي لا يمكن أن يقوم بالتأويل سوى أهل الاختصاص من حكماء وفلاسفة، على هذا الأساس يقول الفيلسوف إن النص الديني هو دوما على وفاق مع ما يقرره العقل إما بدلالته الظاهرة وإما بتأويله، وبذلك يُرفَع التناقض والخلاف الذي قد يبدو لنا بين النقل والعقل.
ويستطرد ابن رشد في عرض فلسفته حول العلاقة بين الدين والفلسفة ليقول بهذا الصدد إن ما تطرقت له الفلسفة حول خلق العالم يكون للشرع فيه حالتان: أن يكون قد سكت عنه، أو أن يكون قال قولا ما بخصوصه. وبما أن اليقين الفلسفي البرهاني حق ولا يمكن أن يتعارض مع حقيقة ذكَرَها الشرع، فإن فيلسوف قرطبة يعتبر أن ما سكت عنه الشرع يجوز الكلام فيه، أما ما قرر بشأنه الشرع قولا ما، فهنا نميز بين حالتين: إما قرر بشأنه الشرع قولا موافقا لما قدره العقل، فلا نتكلم فيه. وإما قرر بشأنه قولا مخالفا لما قدره العقل: فنلجأ للتأويل.
تتلخص أطروحة ابن رشد في هذه المسألة في:
1- – أن الشرع أوجب النظر بالعقل في الوجود وأوجب دراسة المنطق من ناحية أخرى مفسرا آية “واعتبروا يا أولي الأبصار” معنى الأبصار القياس، وأوجب النظر في الوجود من علل الموجودات.
2 – – الوجه الثاني أن هذا النظر ليس بدعة وينبغي أن نأخذ به و لا يمكن أن يتحقق لفرد واحد فهو إسهام لأفراد كثيرين فيجب أن نلجأ للأمم الأخرى.
3 – – العلاقة بين ما يقرره العقل البرهاني وما تتفق به الشريعة، كل منهما يعبر عن الحق، والقضايا البرهانية العقلية هي حق، وما نطق به الشرع حق، والحق لا يضاد الحق بل يؤكده ويشهد له، أي ليس هناك تناقض بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة. وابن رشد مرجعه النهائي العقل.
ويقوم مذهب ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة على ثلاثة دعائم:
-أ- تقسيم الناس طبقات مختلفة في استعداداتهم العقلية.
-ب- تفسير المعجزات تفسيرا يجعلها على وفاق مع العقل والقوانين الطبيعية العامة، وبيان الصلة التي يجب أن تكون بين العقل والوحي في مسألة المعرفة.
-ج- وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص القرآن والحديث.
في مجال دراسة الفلسفة اليونانية، يقول ابن رشد مثل قول الكندي في أننا يجب أن نأخذ الحقائق حتى لو كان قائلها من ملة غير ملتنا، وأن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع وأن الفرد لا يستطيع أن يُحَصِّل العلم وحده ويجب أن نستفيد من البعض ومن السابقين.
شرعيا أوجب النظر العقلي في القضايا التي تُوصِل إلى الله وينبغي أن تتوافر فيمن ينظر بهذه العلوم أمرين: – ذكاء الفطرة- العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية.
ويقول ابن رشد “إذا غوى (أي ضل وانحرف) غَاوٍ بسبب النظر في الوجود لا يمكن أن ننكر الصنعة نفسها عن الأكفاء بالنظر فيها ودراستها لأن بعض غير الأكفاء للنظر قد أخطأ”. وهو ما يعني أن الفلسفة اليونانية التي جعلت البعض الذين يصفهم ابن رشد بغير الأكفاء، يبتعدون عن الدين، لا ينبغي أن نجعل من تصورات هذا البعض مطية لإبعاد الناس عن الفلسفة، فأخطاء القلة لا يجب أن يتحملها الباقون ويجب أن تبقى الفلسفة عاملا قائما لمعرفة الحقيقة.
التعاليق (0)