إن المتتبع للبيئة الحزبية في المغرب يمكنه أن يتلمس وجود صنفين من الأحزاب السياسية الأول يتميز بطبيعته الاستبدادية على مستوى الهرم مستندا الى فكرة الشرعية النضالية والتاريخية للزعيم القائد الملهم كما تسوقه الآلة الدعائية للحزب بعيدا عن ارادة القاعدة الحزبية ومبررها في ذلك هو الحفاظ على دوام “نظام” الحزب لكن في الحقيقة انما يدافعون عن استبداد وخلود القائد وتوسيع نفوذه لدرجة الاعتقاد أن القائد هو علة وجود التنظيم !!!
والصنف الثاني من الأحزاب تفتقد الانضباط والولاء للمبادئ والأفكار وتستبدل المراهنة على القيادة والقواعد الحزبية لتراهن على السلطة والادارة في استقطاب أكبر عدد من الأعضاء لتوسيع صفوفها في الأوساط الاجتماعية بهاجس الحصول على المكاسب السياسية وعلى المقاعد البرلمانية والجماعية.
ان وضعية أحزابنا السياسية وتاريخها وممارساتها تتسم بالطبيعة الانفرادية القوية للقائد واستمرار خلوده على كرسي الزعامة مع تكريس الولاءات في محيطه التنظيمي وتمييع النشاط الحزبي مما ساعد على تردي الوضع السياسي والحزبي في بلادنا وأفقد الناس وأغلبية المواطنين الثقة في الممارسة السياسية وما يتعلق بها، وهذا ما يضع أحزابنا اليوم أمام تحدي تغيير الذهنيات، ذهنيات قادتها وأطرها ومناضليها وتكييفها مع متطلبات الواقع الجديد و السعي الى التغيير.. تغيير الياتها وخطابها ودورها وبشكل ديموقراطي للقضاء على الرداءة والميوعة السياسية في الوقت الراهن.
لقد تغيرت الظروف العالمية وتعقدت العلاقات الاقتصادية وتبدلت المعطيات الاجتماعية وتنوعت الرؤى السياسية، ومن الطبيعي أن تفرز هذه الظروف والعلاقات والبنيات الجديدة قيادات سياسية وحزبية جديدة تملك ميزة التجانس مع هذا الواقع الجديد الذي نتعامل معه لكن وحسب قراءة الوضع السياسي القائم كان في مقدور القيادات الحزبية التقليدية أن تجتهد أو حتى أن تجهد نفسها اذا لزم الأمر لتتوافق مع هذه الظروف التي تتسيد حركة المجتمع في الفترة الأخيرة غير أن استقراءنا للمستجدات الأخيرة لحركة العمل السياسي والحزبي ولنتائج المؤتمرات الحزبية الأخيرة .. كلها تؤكد أن هناك عرقلة لدوران النخب والأجيال الشابة واستمرار تحكم “أوليغارشيات” حزبية على هرم التنظيمات الحزبية وحيث لا تزال القيادات التقليدية المحترفة/ المحترقة تصر على احتكار مواقع القيادة في الأحزاب الوطنية دون حدود لمدة الأنتدابات المتعلقة بمهمة القائد الحزبي (الامين العام او الكاتب الاول) وهو ما يمنع الزامية التداول على المسؤوليات مع الابقاء على نفس القائد/الكاتب الاول للحزب بصفة أبدية ولما لا و (“الشرع” عطانا اربعة) !!
ووعيا بخطورة الأزمة الحالية للأحزاب السياسية وافرازاتها المباشرة عبرت حركات ومنظمات الشباب داخل الأحزاب وخارجها عن تدمرها وعدم رضاها عن هذه البيروقراطية المحترفة التي تتسيد العمل الحزبي لكن اصرار هؤلاء الشباب على تغيير وجه العمل الحزبي أمر طبيعي وضروري وترجع هذه الحتمية الى عدة امور موضوعية منها:
– رفض الشباب للدور القزمي الموكول لهم داخل الأحزاب الوطنية وهي الأحزاب التي تشنف أسماعنا صباح مساء بالديموقراطية وسلطة الشعب وتدعو الى تحقيق الانفتاح السياسي وتدين التدبير الانفرادي للشأن الحزبي والشأن العام لكن هذه الأحزاب في حقيقتها هي التي تعرقل دوران النخب وتقصي الشباب وتخون الممارسة الديموقراطية وعوض أن تكون الديموقراطية ممارسة نضالية وحياتية داخل أحزابها والانتخابات وسيلة للمشاركة في الحياة السياسية العامة فإنها حرفت هذه الديموقراطية وحولت الية التصويت الديموقراطي في مؤتمراتها الى وسيلة بيد القيادة المحترفة ينتزعون بواسطتها اقرار القاعدة الحزبية بشرعية القائد.
– احتجاج الشباب والانتفاض على قياداتها ونخبها التقليدية التي طال خلودها في توابيت الأحزاب لأن هذه الزعامات والقيادات قد أعطيت فرصا عدة لتحقيق مطالب المجتمع والأمة لكنها لم تفعل. وعندما حاولت هذه الأجيال الشابة أن تتمعن في تاريخ هذه الأحزاب بل وفي تاريخ وواقع المجتمع الذي تنتمي اليه اكتشفت أن هذه القيادات الحزبية المحنطة هي التي قادت الأحزاب طوال الفترات السابقة الى هذا الوضع الكارثي وأوصلت المجتمع الى ما وصل اليه من جمود وتردي كما اكتشفت أيضا أن هذه القيادات تقوم بدور نشيط في ضرب الحصار حول الوجوه الشابة التواقة للتغيير والتجديد لإعاقة وصولها الى المواقع القيادية والمؤثرة داخل الأحزاب، والمثير للاستغراب أن الدولة تعترف بكفاءة وفعالية هؤلاء الشباب المنتسبين للأحزاب الوطنية وخصوصا منها اليسارية وتسارع الى توظيفها وتشغيلها في أعلى مستويات دواليب الدولة (حسن طارق – الشامي …).
ان ما يجري داخل الأحزاب الوطنية يكاد يشبه نوعا من التملك الطبيعي أو الملك الطبيعي كما يسميه ابن خلدون والتملك الطبيعي هي السلطة بمعناها الأولي الهادف الى تأمين الأساسي والضروري ماديا ومعنويا، والتملك السياسي هو نوع مركب من أنواع التملك يضطر فيه المرء الى اللجوء الى النظر العقلي من أجل الاستدامة في السلطة لكسب وتأمين المنافع !!!
فهل نحن أمام قادة حزبيين يتحججون بالمصلحة العامة لتأمين مصالحهم الخاصة؟ وهل نحن أمام قادة حزبيين تغيب لديهم الرؤية المستقبلية ويعيقون قانون وفلسفة دوران النخب والأجيال؟
لقد سعى قادة الأحزاب الى السلطة لا من أجل التغيير وفق الرؤية المستقبلية أو وفق الايديولوجية الاصلاحية (اليسارية) بل من أجل المنصب المذر للمنافع والاستلذاذ بالسلطة (ابن خلدون) أي تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة أي طغيان لذة السلطة على ما عداها وكأننا نعود الى نوع من التملك الطبيعي وكل متابع للمشهد الحزبي المغربي يلاحظ حضور قيادات حزبية لا تزال تصر على احتكار مواقع القيادة بل و”تقاتل” تنظيميا ودعائيا ضد كل متربص غاشم بكرسي الكتابة الأولى أو الامانة العامة للحزب وتحارب بعنف لفظي و تخريب تنظيمي وبالوشاية الكاذبة ضد كل كفاءة شبابية تخالفها الرأي وتنزل بالخلاف في الرأي الى مستويات الإسفاف في الكلام والخطاب ومن المؤكد ان الدوافع النفسية والمصالح الخاصة والعائلية وأطماع الحصول على المناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية تكمن وراء هذه الخلافات والخصومات داخل الأحزاب الوطنية.
ومن الطبيعي أن يشتد هجوم القادة على معارضيهم ومخالفيهم الرأي في مثل هذه الفترة الحرجة التي نقترب فيها من موسم حصاد العمل السياسي والحزبي، خصوصا ونحن على مرمى حجر من الانتخابات العامة ولذا ترى قادة الأحزاب وما دونهم من القيادات المحلية تعمل على تحصين مواقعها التنظيمية دفاعا عن مصالحها و درءا لرياح التغيير التي قد تعصف بمصالحهم وتطلعاتهم ويظهر أن شراستهم في الدفاع عن مصالحهم ومواقعهم تلك على ما يبدو قد تكون معركتهم الأخيرة ؟؟؟
وكان من الأولى أن يكون الصراع داخل التنظيمات الحزبية صراعا متبصرا ونشيطا من أجل تدعيم البناء الديموقراطي وتطوير بنية الأحزاب الوطنية والارتقاء بمستوى أداء الأحزاب وتبسيط أليات دوران النخب والاجيال وعدم منح مهام الكاتب الأول أو الأمين العام صلاحيات واسعة تقضي بتهميش باقي الهيئات وخصوصا هيئات الشباب والنساء والعمال…. والا فإننا سنزيد من وتيرة ودوام الانشقاقات والتشظي والتشرذم والفوضى التنظيمية.. ويمكن ان نستشهد في هذا المثال بالقصيدة الرائعة للشاعر احمد مطر وهي قصيدة (المنشق): يقول
عندنا عشرة أحزاب ونصف الحزب
في كل زقاق
كلها يسعى الى نبد الشقاق !
كلها ينشق في الساعة شقين
وينشق على الشقين شقان
وينشقان عن شقيهما
من أجل تحقيق الوفاق !!
جمرات تتهاوى شررا
ثم لا يبقى لها
الا رماد الاحتراق
أصبح من المسلم به أن جل الأحزاب المغربية هي تنظيمات غير ديموقراطية رغم كل ما تتخفى من ورائه (من شعارات وأدبيات تؤكد على الاختيار الديموقراطي، فهذه الأحزاب درجت منذ وقت طويل على مطالبة السلطة السياسية بدمقرطة النظام وضمان نزاهة الانتخابات وارساء ركائز دولة الحق والقانون في الوقت الذي لا تحترم داخلها أية مبادئ ديموقراطية ولا تمارس بين صفوفها ديموقراطية داخلية حقيقية ) قاشي م. الكبير.
ذ. محمد بادرة


التعاليق (0)