فسحة الصيف مع الفلسفة الحلقة -21-..ابن رشد الفيلسوف المغرم بأرسطو

ابن رشد فسحة الصيف

سعيد الغماز/

الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.  

في الحلقة الماضية، تحدثنا عن رأي ابن رشد في العلاقة بين العقل والنص الديني وشروط فيلسوف قرطبة في مسألة التأويل. في هذه الحلقة سنركز على نظرية ابن رشد في المعرفة.

فلسفة ابن رشد قائمة في معظمها على ثنائية معرفية. فإذا كان فيلسوف قرطبة يعتبر مصدر الحقيقة في أمرين اثنين هما النص الديني والبرهان العقلي، ويجعل النص الديني قائما على ثنائية الظاهر والباطن، فهو يسير على نفس النهج في بسط الحقيقة لعموم الناس الذين يعتبرهم الفيلسوف أنهم مختلفون في جبلتهم حيث يقسمهم إلى صنفين كذلك: صنف من الناس يجري عليهم القياس البرهاني، وصنف آخر يجري عليهم القياس الجدلي. وينحو فيلسوف قرطبة إلى الاعتقاد بوحدة الحقيقة، وأن غاية الفلسفة والشريعة واحدة وهي اكتشاف الحق والعمل بموجبه. كما يقول إن الحقيقة واحدة وإن تعددت السبل والمسالك في طلبها، “فالحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، وهما متحابتان بالجوهر” كما جاء على لسان ابن رشد.

في موضوع المادة وخلق العالم، فإن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي أرسطو. فيقول: “إن كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق”. وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صُنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هل شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف له؟ «بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه» يُجيب ابن رشد. وبناءً عليه يكون كل جسم أبديًا بسبب مادته، أي أنه لا يتلاشى أبدًا، لأن مادته لا تتلاشى أبدًا. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز العمل لا بد له من هذا الانتقال، وإلاَّ حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة، لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء قط. وبناءً عليه، فالمحرك الأول الذي هو مصدر القوة والفعل «أي الخالق سبحانه وتعالى» يكون غير مختار في فعله في موضوع اتصال الكون بالخالق. لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة. فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة. فإنه كما أن كل شؤون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا لكل شؤون الحكومة، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشؤون.

كذلك الخالق في الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات. فبناءً على ذلك لا يكون للكون «اتصال» بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده. وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب. وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كَونٌ حي بل أشرفَ الأحياء والكائنات. وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة. والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها، فهو في قلب هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تُحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه. وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناءً على ذلك يكون للعقل الأول، الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.

أما في موضوع العقل وعلة العلل فيقول ابن رشد “إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة. والعقل الخاص المنفعل، من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناءً عليه يكون العقل العام الفاعل خالدًا والعقل المنفعل فانيًا. ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذن هي خالدة وحدها دون سواها. وبناءً على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية”.

أما فيما يتعلق بحرية الإنسان، فابن رشد يذهب فيها مذهبًا معتدلاً. فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تمامًا ولا مقيدها تمامًا. وذلك إذا نُظر إليه من جهة نفسه وباطنه، فهو حر مطلق، لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه. ولكن إذا نُظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيدًا بها لما لها من التأثير على أعماله.

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً