في الثالت من شهر ماي من كل سنة، يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة ، يوم نقف فيه على ما أضحت تعرفه المنظومة الإعلامية الدولية، ومن ضمنها الساحة الإعلامية المغربية، من وقع تحولات جذرية أملتها الثورة الرقمية المتسارعة، وفي قلبها الذكاء الاصطناعي الذي لم يعد مجرد أداة تقنية مساعدة، بل أصبح فاعلا رئيسيا في إنتاج المحتوى وتوجيهه. ففي زمن باتت فيه الخوارزميات تكتب الأخبار، وتحلل المعطيات، وتنتج الصور والفيديوهات، صار لزاما إعادة النظر في مبدأ حرية التعبير، ليس من حيث ضمانه فحسب، بل من زاوية ضبطه وترشيده بما يحفظ التوازن بين الحق في التعبير، وحق الجمهور في المعلومة الصادقة، وضرورة إحترام القواعد المهنية والأخلاقية.
إن التطور التقني الحاصل، وإن كان يحمل وعودا مشرقة في ما يخص تسهيل العمل الإعلامي وتوسيع قاعدة الوصول إلى المعرفة، إلا أنه في المقابل يطرح تحديات قانونية وأخلاقية حقيقية، تتجلى في صعوبة التمييز بين ما هو بشري وآلي، وبين ما هو حقيقي وما هو مصطنع، لاسيما في ظل تصاعد الظواهر المقلقة كالأخبار الزائفة، والمحتويات المضللة المنتجة بالذكاء الاصطناعي، وتقنيات التزييف العميق (deepfakes). وهو ما يهدد، في جوهره، الثقة العامة في الإعلام، ويفتح المجال أمام التأثير الخفي في الرأي العام وهندسة الوعي الجماعي .
ففي السياق المغربي وواقعنا الاعلامي ، ورغم إقرار دستور المملكة لسنة 2011 حرية التعبير والصحافة والحق في المعلومة، فإن الترسانة التشريعية الحالية، من قبيل القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، والقانون رقم 09.08 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، لم تعد تواكب التحديات التقنية والأخلاقية التي أفرزها استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإعلامي. إذ تفتقر هذه النصوص إلى مقتضيات صريحة تلزم المؤسسات الإعلامية بالإفصاح عن المحتوى المنتج آليا، وتحدد المسؤولية في حال حصول إنزلاقات أو أضرار ناتجة عن محتوى إصطناعي. كما لا تكرس رقابة مؤسساتية خاصة بهذا المجال، مما يترك الباب مفتوحا أمام ممارسات غير محكومة قد تفرغ الحق في التعبير من مضمونه القيمي والمؤسساتي.
أما على المستوى المقارن، فقد بدأ الاتحاد الأوروبي، من خلال قانون الذكاء الاصطناعي ، الذي يطلق عليه AI Act ، في بلور
ة معالم تنظيم قانوني طموح يهدف إلى تصنيف مخاطر إستخدام الذكاء الإصطناعي، وفرض التزامات دقيقة على الفاعلين، لاسيما في المجالات ذات الأثر المجتمعي الكبير كالإعلام. وينص هذا الإطار الأوروبي، من بين ما ينص عليه، على ضرورة الإفصاح حينما يكون المحتوى ناتجا عن نظام ذكي، وفرض آليات شفافية تسمح للمستهلك أو المتلقي بمعرفة مصدر وطبيعة المعلومات المقدمة إليه.
في التحربة الفرنسية ، ورغم غياب قانون خاص، فإن الهيئات الإعلامية مدعوة إلى تطوير مواثيق داخلية ملزمة تحترم أخلاقيات المهنة، وتكرس المسؤولية التحريرية حتى في حال الاستعانة بالوسائل الذكية. وفي الولايات المتحدة، ورغم غياب تنظيم فيدرالي موحد، فإن اللجنة التجارة الفيدرالية (FTC) ، تحذر من إستخدام الذكاء الاصطناعي في تضليل المستهلك الإعلامي أو تسيء إلى حقوقه الأساسية.
ختاما، إن واقع اليوم يفرض بلورة رؤية قانونية وأخلاقية متكاملة، تعيد ضبط العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وحرية التعبير في الحقل الإعلامي، من خلال إعداد إطار وطني صريح يلزم بالإفصاح عن المحتوى الاصطناعي، ويحمل الجهات الناشرة مسؤولية ما ينتج عن إستخدام الذكاء الاصطناعي من أضرار محتملة، إلى جانب خلق آلية رقابية مستقلة تعنى بتقويم المحتوى الإعلامي المدار بالذكاء الإصطناعي، وتطوير ميثاق وطني للأخلاقيات الرقمية بمشاركة مختلف الفاعلين المؤسساتيين والمهنيين، وعلى رأسهم المجلس الوطني للصحافة واللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية.
فالتحدي لا يكمن في محاربة الذكاء الإصطناعي، بل في جعله أداة تخدم الحقيقة، وتعزز المصداقية، وتحصن حرية التعبير من الانزلاقات التقنية والتجارية والإيديولوجية التي قد تفرغها من بعدها التحرري والحقوقي، وتحولها إلى أداة هيمنة أو تضليل.
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان
نائب رئيس المرصد الوطني للدراسات الإستراتيجية.
التعاليق (0)