هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

فلسفة الحب الإلهي عند جلال الدين الرومي…التصوف بوصفه رسالة كونية

كُتّاب وآراء

يُعد جلال الدين الرومي (1207–1273م) واحداً من أبرز أعلام التصوف في التاريخ الإسلامي، وشخصية تجاوزت حدود الزمان والمكان لتخاطب الإنسان في عمقه الروحي والوجداني. ترك وراءه إرثاً ضخماً من الشعر والحكمة، بلغ تأثيره أقاصي الأرض، وترجمَت أعماله إلى أغلب لغات العالم، ليصبح رمزاً عالمياً للحب والسلام الداخلي.

ويكفي أن نعرف أن أشعار جلال الدين الرومي، هي أكثر دواوين الشعراء مبيعا في الولايات المتحدة الأمريكية. وأن الجنود الأمريكيين أثناء غزو أفغانستان والعراق، كانوا يبحثون عن المعنى في أشعار الرومي.
من بلخ إلى قونية: رحلة الروح والبحث عن المعنى

وُلد محمد بن محمد بن حسين البلخي، المعروف بجلال الدين الرومي، في مدينة بلخ (في أفغانستان الحالية) لعائلة علمية ودينية. هاجر مع والده، بهاء الدين ولد، إلى الأناضول هرباً من الغزو المغولي، واستقرّ أخيراً في قونية، التي أصبحت مركز إشعاع علمي وروحي في عصره.
تلقى الرومي تعليماً تقليدياً في الفقه، والحديث، والتفسير، لكنه سرعان ما تحوّل من العالِم الفقيه إلى الصوفي العاشق، بفضل لقائه الشهير مع المتصوف شمس الدين التبريزي سنة 1244م. هذا اللقاء غيّر مسار حياته، وفتح له أبواب العرفان والوجد، حيث أصبح الحب الإلهي مركز تجربته.
شمس التبريزي: شرارة التحول في وجدان الرومي
كان شمس التبريزي صوفياً غامضاً، لا يلتزم بالأطر التقليدية، وأتى إلى قونية بحثاً عن “رفيق روحاني”. وجد ضالته في جلال الدين الرومي، الذي تخلى عن دروسه ومكانته الاجتماعية ليرافقه في خلوة روحية عميقة. اختفاء شمس المفاجئ (الذي يظل لغزاً تاريخياً) خلَّف جرحاً عاطفياً في قلب الرومي، دفعه إلى الكتابة المكثفة، فكان “ديوان شمس تبريزي” نتاجاً مباشراً لهذا الهُيام.
المثنوي: أشهر وأضخم كتب الرومي
يُعد كتاب المثنوي، الذي كتبه الرومي بالفارسية، من أعظم ما أُنتج في الأدب الصوفي. يضمّ أكثر من 25 ألف بيت شعري، يمزج فيه بين القصص، والحِكم، والتأملات الصوفية، بأسلوب رمزي ولغة شاعرية تفيض بالحكمة والعشق الإلهي.
فلسفة الرومي: الحب كطريق إلى الله

جوهر رسالة الرومي هو الحب: لا الحب الشهواني، بل حب شامل يتجاوز الحدود، يوحّد الإنسان بالمطلق، ويفتح له أفق التجلي. يرى الرومي أن كل شيء في الوجود يتحرك بدافع الحب، وأن النفس لا تكتمل إلا حين تنفصل عن الأنا وتذوب في الحبيب الأزلي.
في قوله الشهير: “لقد خُلقنا من الحب، نولد في الحب، ونموت في الحب”، يتجلّى تصوره الوجودي العميق، حيث يصبح العشق الإلهي أسمى أشكال المعرفة.

فلسفة الرومي في التصوف، تختلف عن فلسفة أبي حامد الغزالي. هذه الأخير يعتبر أن قلب الإنسان موزع بين الرهبة والخوف، وأن الخوف من العقاب الإلهي هو الطريق للقرب من التعاليم الدينية. فيما يعتبر الرومي أن الحب والعشق الإلهي هو جوهر الوجود وإعادة الإنسان إلى مركزه الروحي.
الدوران الصوفي: رقصة تجمع بين العبادة والجمال

ارتبط اسم الرومي بالطريقة المولوية، وهي الطريقة الصوفية التي تختزل فلسفة الرمي في التصوف. وتُعرف برقصة “السماع” أو الرقصة الصوفية الدوّارة، حيث يدور الدراويش بلباسهم الأبيض تعبيراً عن الفناء في الله. هذه الرقصة ليست مجرد أداء فني، بل تمارين روحية تسعى إلى محو الذات والاتحاد بالمطلق.
الرومي اليوم: شاعر يتحدث إلى الإنسانية

ما يميز الرومي هو قدرته على مخاطبة الإنسان المعاصر، رغم مرور قرون على وفاته. فقد انتشر شعره في الغرب بشكل واسع، وأصبح من أكثر الشعراء مبيعاً في الولايات المتحدة، وتحوّلت مقولاته إلى مصدر إلهام للباحثين عن المعنى، والطمأنينة، والسلام الداخلي.

في زمن التوترات الدينية والسياسية، يظهر الرومي كمثال للتسامح، والدعوة إلى الحوار، والربط بين الأديان والثقافات. فهو يقول:

“تعال، تعال، مهما كنت… لا يهم إن كنت كافراً أو مجوسياً، أو عابد أصنام… تعال، فليس هذا باب اليأس”.

يبقى جلال الدين الرومي شعلة مضيئة في تاريخ الفكر الإنساني، لأنه تحدث إلى القلب قبل العقل، وأيقظ في الإنسان نداء الروح. لقد وحّد بين الشرق والغرب، بين الدين والفن، بين الكلمة والرقصة، وعلّمنا أن الطريق إلى الله يمر عبر الحب، والتسامح، والمعرفة.

يتحدث العالم اليوم عن كونية حقوق الإنسان، وجلال الدين الرومي تحدث عن كونية الحب الإلهي منذ القرن 13 أي منذ 800 سنة.

سعيد الغماز-كاتب وباحث

التعاليق (0)

اترك تعليقاً