فتحت أعمال ابن سينا في التشخيص الطبي، الباب واسعا لتطور الطرق الطبية في التشخيص وكيفية العلاج. فبعد ترجمة كتب ابن سينا، وخاصة كتابه الشهير “القانون في الطب”، وكتُب الكثير من الأطباء في العصر الإسلامي، بدأت تظهر في العالم طُرق جديدة في التعامل مع الطب كعلم قائم بذاته يهتم بصحة الإنسان عموما. ففي سنة 1761، تمكن الطبيب النمساوي -أوينبرغر- من ابتكار طريقة القرع (Percussion) في تشخيص المرض. وتقوم هذه الطريقة السهلة والناجعة، على معرفة الحالة الصحية لبعض أجزاء الجسم، استنادا إلى الصوت الناتج عن ضرب هذه الأعضاء من الخارج باستعمال الأصابع. هذه الطريقة تمكَّن طبيب نابوليون من تطويرها وإتقانها، فأصبحت معتمدة في التشخيص وتُستعمل حتى في وقتنا الراهن من طرف الأطباء.
في العصر الإسلامي، كان تشخيص المرض يعتمد بالضرورة على وضع الأذن على صدر المريض والانصات لدقات القلب (L’auscultation). وتعود فكرة وضع الأذن للإنصات لدقات القلب إلى الفيلسوف اليوناني أبُقراط. وقد تطورت هذه الطريقة في عهد ابن النفيس بعد اكتشافه للدورة الدموية. كانت العملية تتم بسماع دقات القلب مباشرة عبر الأذن، إلى أن استطاع الفرنسي -روني لاينيك- باختراع سماعة الطبيب (Stéthoscope) في بداية القرن 19. كانت أول سماعة مصنوعة من ورق ملفوف، ثم تم تطويرها باستبدال الورق بأسطوانة من الخشب في سنة 1815، وكانت سماعة تتطلب استعمال أذن واحدة فقط. عرفت سماعة الطبيب تطورات مختلفة إلى أن قام الأمريكي -كامان- باختراع سماعة كما هي موجودة في وقتنا الراهن، تتطلب استعمال الأذنين في آن واحد. وهي السماعة التي ما زالت تُستعمل في عصرنا الحالي. وفي سنة 1980 طرح الأمريكيان -كروم- و-بون- السماعة الالكترونية.
كانت عملية التوليد من بين الاهتمامات الكبرى للطب عبر العصور. وقد اهتم العلماء في العصر الإسلامي بالولادات وتمكنوا من تطوير طرق طبية ساهمت في الحد من الوفيات المرتبطة بالولادة سواء المرأة الحامل أو الجنين. ويُعتبر اختراع جهاز الموجات فوق الصوتية (Echographie) حدثا فارقا في تاريخ الإنسانية، لأنه ساهم بشكل كبير في تحسين ظروف وشروط الولادة. هذا الجهاز لم يكن في البداية يُستعمل في مراقبة حمل المرأة، ففي 1955 كان الطبيب الأمريكي -ليسكيل- يستعمله في مراقبة صحة القلب. وفي 1956 قام البريطاني -جون دونالد- بإجراء أول فحص بالموجات فوق الصوتية على امرأة حامل. كانت تلك أول عملية “إيكوغرافي” ينظر من خلالها الطبيب للجنين في بطن أمه. ومنذ 1978 تم تعميم هذه التقنية التي أصبحت تمكننا من معرفة جنس الجنين منذ الأسبوع الثامن، كما تُمكِّن الأطباء من التشخيص المبكر للتشوهات المحتملة وعلاجها في الوقت المناسب.
قد تبدو لنا التطورات الكبيرة التي عرفها التشخيص الطبي في عصرنا، أمرا مألوفا وجاء نتيجة الأبحاث والاكتشافات والاختراعات. لكن كل ذلك ساهمت فيه البشرية عبر مختلف الحقب الزمنية. وفي هذا المجال، ساهمت الحقبة اليونانية بقدر بسيط في هذا التطور، وكان العصر الإسلامي نقطة دفع كبيرة للتشخيص في مجال الطب، استفاد منها كثيرا عصر النهضة في أوروبا، ثم ازدهر الطب إلى أن وصل الواقع الذي نعيشه في عصرنا الحالي.
سعيد الغماز