سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازَمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي، وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
في الحلقة الماضية، تطرقنا للمحاور الأربعة في فلسفة نيتشه ولانتقاده اللاذع لأخلاق المَسكنة والذل التي تتبناها الكنيسة في عصره، هذا الانتقاد هو الذي جعل نيتشه يتوصل إلى نظريته الرئيسية في فلسفته “إرادة القوة” والقائمة على أساس مقولته الشهيرة “موت الإله” والتي تعني موت أخلاق المسكنة والذل والضعف لتحل مكانها أخلاق القوة والعظمة كما يمكن أن نفهم من فلسفة نيتشه. في هذه الحلقة سنفصل في مقولة نيتشه الشهيرة “موت الإله”، لنختم المقال بالموقف الشاد لنيتشه من المرأة.
يعتبر نيتشه أن “موت الإله” شيء ضروري ليتحرر الإنسان من فلسفة الهزيمة بمعنى الشعور بالذل والهزيمة والضعف. لكنه يقول أيضا إن “موت الإله” ينتج عنه فراغا أخلاقيا كبيرا لأن الإنسان يعتبر أن الإله هو مصدر هذه الأخلاق. وكان نيتشه يرفض فكرة الكنيسة التي تعتبر أن الأخلاق شيئا مطلقا. ويبني رأيه هذا على أساس أن الفكر المثالي الناتج عن الديانة المسيحية يقود إلى الضعف وإلى كبث الإرادة الطبيعية القوية داخل الإنسان. على هذا الأساس يذهب الكثير من المفكرين إلى القول إن نيتشه لا يقصد “بموت الإله” الذات الإلهية وإنما هي طريقته لتوجيه انتقاداته لما يصدر عن الكنيسة المسيحية من تصرفات وأحكام، حيث يعتبر أن موت هذه التصرفات ضروري لينعتق المجتمع من سلطة الكنيسة. تلك هي طريقة نيتشه في التعبير عن آرائه، وهي الطريقة التي نهجها في التعبير عن مواصفات الإنسان الأعلى فاستعمل شخصية “زرادشت” لتتحدث بلسانه.
ويستطرد نيتشه في آرائه حول فلسفة الأخلاق بالقول إذا افترضنا أن “الإله قد مات” وهو يقصد موت جميع الأخلاق وأفكار وتصرفات الكنيسة المسيحية التي كانت تسيطر على المجتمع الغربي، فإننا سنكون أمام ضرورة مواجهة الفراغ الذي يمكن أن يخلقه الانسحاب الكلي للكنيسة من الحياة اليومية. وهو ما يبرهن على أن فلسفة نيتشه تقصد بموت الإله الأخلاق والأحكام التي تُروج لها الكنيسة المسيحية. مواجهة هذا الفراغ الأخلاقي يفرض إيجاد مثاليات جديدة لتعويض مثاليات الكنيسة بعد موتها. لكن كيف يمكن للمجتمع أن يخلق هذه المثاليات؟ يُجيب نيتشه أن إرادة الحياة هي التي ستخلق هذه المثاليات.
إرادة الحياة لا تعترف بوجود مثاليات واحدة حسب رأي نيتشه. فإذا تطرقنا لمثال الصدق لا يوجد مثال واحد، فكل إنسان يخلق مثالا معينا من الصدق أو حالة مشابهة للصدق. ففي المجتمع يمكن أن نجد الآلاف من المثاليات التي تشبه مثالية الصدق. فالإرادة الحياتية تخلق المثال كانعكاس للحياة اليومية. ولكي نستطيع مقاومة الظروف الخارجية ونعيش ونزدهر نحتاج لمثالية الصدق، ومن هنا تتحرك إرادة الحياة لخلق هذه المثالية وجميع المثاليات التي يحتاجها المجتمع التي سوف يقبلها كل الأفراد. أما إذا كانت مثالية الصدق غير مهمة في حياة المجتمع على سبيل المثال، فليس هناك داع لوجود هذه المثالية، وقد يكون الكذب هو المثالية الصحيحة التي يحتاجها المجتمع. هي فكرة غريبة، لكنها تعود إلى فكرة التطور الاجتماعي، بمعنى أن كل فكرة أخلاقية نفكر بها إذا كانت تفيد المجتمع، ويمكن تلقين هذه الأفكار للجيل الثاني الذي بدوره سيعلمها للجيل الثالث، وهكذا ستبقى هذه الفكرة ولن تموت.
هنا نجد أن نيتشه يتعارض مع فلسفة “شوبنهاور”. فهذا الأخير يعتبر أن الإرادة الغريزية إرادة مأساوية ودائما تقود الإنسان إلى الفناء. بينما نيتشه يعتبر أن هذه الإرادة ليست سلبية ولا تقود الإنسان إلى الفناء، وإنما هي تقوده إلى تحسين حياته وبذلك سيُحسِّن حياة الأجيال القادمة. ويقول نيتشه بهذا الخصوص إن أهمية الإرادة هي التغلب على الشعور بالهزيمة أو الشعور بالضعف.
الفكرة الرئيسية التي يريد نيتشه إيصالها بحديثه عن الأخلاق، هي أن أفكار الخنوع والضعف والهزيمة والاستسلام لفكر الكنيسة المسيحية من شأنه تلجيم قدرة الإنسان في الإبداع والعطاء والتطور، كما أنها تَحُد من طاقة الإنسان وقدرته على التفكير والإبداع وتجعله يشعر بالضعف. وتحرير إرادة الإنسان من هذه الأفكار، من شأنه تحرير الطاقات وفتح المجال للإبداع والتطور والشعور بالقوة.
نختم فلسفة نيتشه بكلمة مقتضبة عن رأيه في المرأة. لقد كان موقف نيتشه من المرأة موقفا شادا وقاسيا أرجعه الكثير من المفكرين إلى تجاربه الفاشلة مع النساء اللواتي تعرف عليهن، فنيتشه لم يتزوج طيلة حياته. يمكن تلخيص موقف نيتشه من المرأة في مقولته الشهيرة: “أذاهب أنت إلى المرأة؟ لا تنس إذا سوطك”. وهو يعتبر أن المرأة مخلوق ناقص وفيها من العيوب الكامنة ما يحتم علينا ألا نعهد إليها بأي عمل جدي. فالمرأة في نظره تهتم بالأشخاص لا بالأشياء. ومن الخطر أن نعهد إليها بالأمور الهامة كالسياسة مثلا، إذ أنها عندئذ لا يمكنها أن تتصرف تصرفا نزيها ومحايدا. ويؤكد نيتشه أن “الروح الحرة لا تعيش مع المرأة” وإنما تحلق وحدها وتسير في طريقها الخاص. وأقصى ما يمكن أن تحتله المرأة من مكانة، هي مكانة الأشياء المملوكة فحسب. ويقول في هذا الصدد:”…..فأما الرجل الذي يتصف بالعمق في روحه كما في رغباته…..فلا يمكنه أن يفكر في المرأة إلا على الطريقة الشرقية دائما-أعني لا بد أن ينظر إلى المرأة على أنها شيء يُمتلك، وعلى أنها متاع مُحجب، وعلى أنها شيء كتب عليه مقدما أن يُستعمل في الخدمة المنزلية، وأن يحقق ذاته فيها …”.
إنه موقف شاد وقاس يرده نُقَّاد نيتشه إلى عاملين اثنين: عامل شخصي يتجلى في فشل جميع ارتباطاته العاطفية خاصة مع صديقته “لو سالومي” التي رفضت الارتباط به وتركته من أجل شخص آخر، و”كوزيما” زوجة صديقه “فاغنر” التي أُعجب بها إعجابا صامتا، بل لقد أحبها بعمق، ولم يكن يجرؤ على أن يصرح بهذا الحب، خاصة وأن مشاعرها نحوه لم تكن متبادلة على الإطلاق، وكان اهتمامها كله مركزا في عبقرية زوجها فحسب. العامل الثاني هو عامل علمي يتحدد في خلطه بين الصفات الطبيعية والصفات الاجتماعية. فهو يعتبر النقص الذي لاحظه على المرأة صفة طبيعية ولم يكلف نفسه عناء التفكير في احتمال أن يكون هذا النقص ناتجا عن عوامل اجتماعية معينة.
يجب في الأخير أن نقول إنه بعد موت نيتشه استلهمت من أفكاره تيارات عنصرية خاصة في ألمانيا حيث ظهر تيار يقول بتفوق العرق الآري على بقية العالم وهو ما ارتكزت عليه النازية الألمانية. وقد اعتبر الحزب النازي نيتشه من أهم مرجعياته الفكرية.
التعاليق (0)