سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازَمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي، وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
في الحلقة الماضية تطرقنا لفلسفة التاريخ التي أبدع فيها هيغل. وفي هذه الحالقة من فلسفة هيغل، سنعرض لنظريته في كيفية تطور التاريخ.
خلال دراسة الفيلسوف للتاريخ، طرح السؤال التالي: هل التاريخ أحداث عشوائية أم أن هناك نمط فيه؟ ويقول إذا كان التاريخ أحداثا عشوائية فلا فائدة من دراسته. لكن هيغل يعتقد أن هناك نمطا يكرر نفسه عبر الزمن، وبالدراسة والتمعن الجيد من الممكن إيجاد ما أسماه “قانون التطور التاريخي”. هذا القانون هو ما حاول هيغل التوصل إليه أو اكتشافه. في مساره هذا، انطلق هيغل بطرح السؤال التالي: ما الذي يدفع بالتغيير في التاريخ؟ ويقر هيغل أن كل مرحلة تاريخية هي نتاج منطقي للمرحلة التي سبقتها. لكن وعلى عكس ما اعتدنا عليه، التاريخ لا يُعيد نفسه حسب هيغل، وحتى الأحداث التي تكررت فهي لم تكن مركز اهتماماته، بل اعتقد أن كل جيل مميز عن سابقه.
حسب هيغل التغيير يأتي من المفاهيم الجوهرية للمجتمع. تبدو هذه الجملة غامضة وهو أمر طبيعي في فلسفة هيغل، لكن لتوضيح الفكرة سنتناول مِثالا من التاريخ اشتغل عليه هيغل بتمعن متعلق بالسياسة وكيفية تأثيرها على تركيبة المجتمع. في المرحلة الأولى كان يسود اللاقانون أي كل إنسان يقوم بما تهوى نفسه دون ضوابط، وكل ما يتطلبه الأمر فقط أن تكون قويا أو أن يكون لك سند لكي تفعل ما تشاء كسند القبيلة مثلا. المرحلة الثانية تميزت بفرض سلطة القانون بتسلسل هرمي، مسؤول عن قرية، مسؤول عن مدينة، مسؤول عن مقاطعة وهكذا. أما المرحلة الثالثة فحسب هيغل هي ما سماه سيادة القانون، حيث نجد أن تطبيق القوانين هي الكلمة الفصل في المجتمع. يقول هيغل إن هذه المراحل الثلاث المتعاقبة: اللاقانون-الهرمية وسلطة القانون، لم تحصُل من العبث، بل هي ترجمة للمفهوم الجوهري للرغبة في الحرية.
لم يقف هيغل عند هذه النقطة في مثاله هذا، بل تعمق أكثر بربط هذا التطور السياسي بمراحله الثلاثة بموضوع الحرية. وكعادته يشرع في طرح فكره بسؤال ما هي الحرية؟ ويجيب ببساطة: الحرية هي أن تفعل ما يحلو لك. وهذا ما كان سائدا في اعتقاد هيغل في مرحلة اللاقانون. فإن لم تكن هناك حكومة فالكل أحرار فيما يفعلونه. لكن الحرية بهذه الصيغة لم تكن كافية حسب هيغل. فمثلا لتوفير الطعام، كان على الإنسان القيام بمجهود مُتعِب وكبير من أجل زراعة الأرض. لكن بعد جني المحصول يأتي أشخاص يهددونه بقتله لأخذ طعامه الذي أجهد نفسه لتأمينه لنفسه ولعائلته. هذا ما يمكن أن يحدث في مرحلة اللاقانون وهو ما يجعل الإنسان يتخذ قرارا بأن لا يزرع السنة القادمة ما دام هناك من يأخذ منه طعامه تحت التهديد ودون تعب. هذه ليست هي الحرية حسب هيغل، ما دام هناك اغتصاب للحقوق، فهذه حرية فردية على حساب الآخرين. وعلى أساس ذلك يذهب هيغل إلى وصف الحرية المطلقة باللاحرية. هنا يقول هيغل مقولته “التناقض هو المحرك للتاريخ وهو الذي يدفع إلى التغيير، والمجتمع المبني على التناقضات يفتقر إلى الاستقرار”.
هذا التناقض في الحرية يولد لدينا الحاجة إلى مرحلة جديدة مضادة، وذلك للحد من نفاق التناقضات. فبدلا من اللاقانون السائد في المرحلة السابقة، هناك تطبيق صارم للقوانين في المرحلة الجديدة، لأننا أمام حرية من نوع آخر إذ لا أحد يمكنه أخذ ثمار الآخر من الآن. فالإنسان يستطيع أن يزرع أرضه أو يشتري منزلا وهو واثق من أن لا أحد يمكنه سلبه منه، “فأنا حر لأن القانون يحميني” حسب ما يقوله هيغل. لكن هذا الأخير يذهب بعيدا ليُقر أنه لا توجد حرية حتى في هذه المرحلة الجديدة. فالهرمية في السلطة معناه أن هناك رؤساء كثيرون، وإذا أراد الحاكم أخذ قسم من محاصيل أي إنسان، فعلى هذا الأخير أن يرضخ له لأن الحاكم يُقدم له الحماية ويستغله بطريقة أخرى. فالحاكم الذي مَنح الحرية بقوة القانون يمكنه سلبها بطرق أخرى حسب هيغل. هذا الفكر المضاد في هذه المرحلة أصبح بدوره تناقضا يفتح المجال لمرحلة جديدة في التاريخ البشري لعلاج هذا التناقض. من هنا يمكن بناء المرحلة الثالثة عن طريق مصالحة بين المرحلة الأولى والثانية.
عند هذا المستوى من التحليل يطرح هيغل تصوره الديالكتيكي أو الجدلي للتاريخ. فالمرحلة الأولى يمكن تسميتها بالطريحة والمرحلة الثانية يمكن تسميتها بالنقيضة. أما المرحلة الثالثة التي ستقوم على التوفيق بين المرحلتين السابقتين فتُسمى النتيجة. المرحلة الثالثة ستجمع بين الطريحة والنقيضة أي المرحلة الأولى والثانية في مثالنا هذا، وفيها سيتم جمع الصفات الجيدة في المرحلتين مع التخلص من سلبياتهما. بالعودة إلى مثالنا، نقول إن الإيجابيات تكمن في كون الإنسان يمتلك حق مصيره في المرحلة الأولى، وأن القانون يحميه في المرحلة الثانية. المرحلة الثالثة هي العصر الحديث حيث الحرية منظمة بالقوانين، لذلك وحسب قانون هيغل، إن من فرض التغيير عبر التاريخ هو الرغبة في الحرية. أما ماهية الحرية وكيفية صياغتها وتطبيقها فكانت مصدر الاختلاف في الفكر عبر الأجيال.
ما تطرق إليه هيغل من مفاهيم الطريحة والنقيضة والنتيجة تسمى جدلية هيغل. وهذه الجدلية انقسم المفكرون بل حتى طلابه في تفسيرها فأعطتنا الفلسفة الهيغيلية مدرستين متناقضتين: الهيغيلية اليمينية والهيغيلية اليسارية. فنجد من اعتبر جدلية هيغل هي النتيجة المنطقية والحتمية للديمقراطية، وأنها الأساس لفهم التاريخ، وهو ما ذهبت إليه الهيغيلية اليمينية. كما أن جدلية هيغل استعملها كارل ماركس ليتوصل إلى تصور مفاده أن صراع الطبقات الاجتماعية هي نتيجة حتمية للجدلية، واعتبر أن الجدلية ليست لفهم التاريخ وإنما لتغيير الواقع، وهو ما ذهبت إليه الهيغيلية اليسارية. وكأمثلة على جدلية هيغل القائمة على المفاهيم الثلاثة: الطريحة والنقيضة والنتيجة، يمكن أن نتحدث عن روسيا التي انطلقت من روسيا القيصرية المعتمدة على الدين، والتي تحولت إلى روسيا الشيوعية الرافضة للدين والنتيجة لهذا التناقض هو روسيا المعاصرة القائمة على أساس الموازنة بين الدين والمدنية. نفس الشيء ينطبق على فرنسا التي بدأت بمملكة ذات أسس دينية ثم شهدت الثورة العلمانية ثم لاحقا الجمهورية الخامسة المعتدلة. الصين كذلك كانت امبراطورية ثم انقلبت إلى الشيوعية لكنها أصبحت الآن معتدلة أكثر أو لنقل تسير في طريق الاعتدال.
كخلاصة ولتبسيط مفهوم جدلية هيغل، نقول إن هذه الأخيرة قائمة على أساس الطريحة والنقيضة ثم النتيجة. هذه النتيجة ستتحول إلى الطريحة في المرحلة اللاحقة ثم تتبعها النقيضة ثم النتيجة. وهكذا يتطور التاريخ في الفلسفة الهيغيلية.
التعاليق (0)