فسحة الصيف مع الفلسفة الحلقة -36-..إيمانويل كانط نظرية المعرفة بين كانط والغزالي

إيمانويل كانط 1 فسحة الصيف

سعيد الغماز/

الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.

في الحلقة الماضية تطرقنا لما قام به كانط من نقد للعقل الإنساني باعتباره الأداة التي نستخدمها في إدراك المعرفة. إذا كان الكثير من الفلاسفة اعتبروا العقل وسيلة موثوق فيها للوصول إلى الحقيقة، فإن كانط كانت له وجهة نظر أخرى حيث اعتبر أن العقل يجب إخضاعه بدوره للنقد لكي نعرف هل هو أداة موثوق بها؟ في هذه الحلقة من فلسفة كانط سنتطرق لنظرية المعرفة ونقارنها بما جاء في فلسفة الغزالي.

المعرفة عند كانط لا يمكنها أن تستند إلى العقل فقط لأنه غير قادر على إنتاج معرفة جديدة خاصة فيما يتعلق بقضايا العلم الطبيعي. كما أنها لا يمكن أن تعتمد على التجربة لوحدها، لأنها لا تُعطينا إلا معرفة نسبية جزئية وهذا يتعارض مع وجود علوم يقينية كلية كالرياضيات والهندسة والفيزياء. المعرفة من هذا المنطلق ليست نتيجة حصرية للعقل أو للتجربة، بل هي نتاج تظافر وتنسيق وعمل مشترك بين المصدرين معا. فالمعرفة لدى كانط، حسب مقولته الشهيرة، تبدأ بالتجربة ولكن لا تنشأ عنها. فالتجربة تزودنا بالمادة الخام وبالمعطيات الحسية، والعقل هو المصنع الذي يعيد صياغة ومعالجة وتنظيم هذه المادة بواسطة أدوات وأحكام قبلية غير مستمَدة من التجربة، وموجودة في داخل العقل بحكم طبيعته وتركيبته.

العقل عند كانط هو من يصنع صورة العالَم، هو من يُنشئ العالَم، وليس كما كان الاعتقاد سائدا من قبل. فكل المدارس الفلسفية قبل كانط قالت بأن الشيء يتم إدراكه كما هو، وما في عقولنا متطابق مع ما هو موجود في الواقع. إيمانويل كانط قام بعكس الفكرة وقال بأن الواقع هو الذي يتطابق مع ما في عقولنا من تصورات ومعرفة عنه. بمعنى أن العالَم هو الذي يخضع لخصائص العقل وليس العكس. هذا هو التحول الثوري في عالَم الفكر الذي شبهه كانط بالثورة الكوبيرنيكية التي قلبت علم الفلك رأسا على عقب.

فقبل كوبيرنيك كان الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض التي هي مركز العالم. وبعد نظرية كوبيرنيك أصبحت الشمس هي مركز العالَم والأرض تدور حولها.

يعتقد كانط أن العالم من حولنا لا يمكن أن يكون هو مجموع هذه الصفات الظاهرة، فلا بد من حامل لهذه الصفات، ويكون هذا الحامل بمثابة حقيقة وجوهر هذا العالم. هذا الأمر يعني أننا ندرك من الأشياء صفاتها الظاهرة وظواهرها. أما جوهر الشيء وحقيقته فهذا حسب كانط، خارج عن مجال إدراكنا ولا يمكن للعقل الإنساني إدراكه. لذلك قسم كانط العالم إلى قسمين:

قسم عالم الظواهر أو “الفينومين” حسب تعبير كانط، وهو العالم الذي يخضع لشروط التجربة الحسية ولعمل المقولات العقلية أي العالم الذي نستطيع التعامل معه.

وقسم الأشياء في ذاتها أو “النومين” دائما حسب تعبير كانط، وهو العالم الخارج عن قدرة حواسنا والخارج عن عمل مقولاتنا العقلية القبلية.

حسب هذا التقسيم فالعقل قادر على إدراك عالم الظواهر فقط أي عالم “الفينومين”، لأن هذا العالم خاضع لشروط العقل المكانية والزمانية وغيرها من المقولات. في المقابل هذا العقل ليس لديه أي قدرة على إدراك جوهر أو باطن هذا العالم أي عالم الأشياء في ذاتها والعالم اللازماني واللامكاني، عالم “النومين”. وهنا تتوقف حدود العقل عن الإدراك.

على هذا الأساس يعتبر كانط أن إنتاج المعرفة داخل العقل يمر عبر ثلاث مراحل: الإحساس والفهم والتعقل.

الكثير من الفلاسفة والمفكرين، يجدون تشابها ملحوظا ما بين أفكار الغزالي وأفكار إيمانويل كانط بخصوص تقسيم المعرفة. الغزالي قسَّم هذه الأخيرة إلى معرفة دينية وأخرى عقلية. ورسم الحدود الفاصلة بين العقل والدين وبشكل أدق ما بين المعرفة العقلية وحدودها وميدانها وهو العالم المحسوس، والمعرفة الدينية المتعلقة بما أَخبَر به الوحي من أمور غيبية.

أما كانط فقسَّم العالم إلى عالم “الفينومين” ويقصد به عالم الحواس، وعالم “النومين” وهو عالم الأشياء في ذاتها أي عالم الميتافيزيقا. وقال إن العقل لا يستطيع الانتقال من عالَم “الفينومين” إلى عالَم “النومين”، بمعنى أن المفكر غير قادر على البحث في عالَم “النومين” لأنه بكل بساطة خارج ميدان عمله، لارتباط مجال بحثه بما وراء الطبيعة.

وبذلك نلاحظ التشابه البيِّن بين فلسفة الغزالي التي قسَّم فيها المعرفة ما بين عقلية ودينية ورسم الحدود بين كل منهما، وفلسفة كانط التي قام فيها بتقسيم العالَم إلى عالَم الأشياء الحسية وعالَم الأشياء في ذاتها، وأقام جدارا بينهما لا يمكن للعقل البشري تجاوزه أو تسلقه لأنه خارج دائرة إدراكه.

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً