سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
يمكن اعتبار فلسفة وأفكار وآراء مونتسكيو مجموعة في كتابه الشهير “روح القوانين”. فلسفة مونتسكيو تأثرت كباقي الفلاسفة والمفكرين بالبيئة التي عاصرها والأحداث التي عاشها. فقد شهد الفيلسوف أحداثا متمثلة في قمع السلطة الحاكمة لجزء كبير من مواطنيها الذين يحملون رأيا مخالفا، واستبداد الكنيسة ورجال الدين حيث كانوا يُخضعون من انتقدهم لمحاكم التفتيش، إضافة إلى الحروب الدموية السائدة في عصره بين الطوائف الدينية المختلفة. في خضم هذه الأحداث ارتفع صوت مونتسكيو يدعو إلى الإصلاح على كل الأصعدة، من الحرية إلى حقوق الإنسان إلى التسامح إلى المساواة. ووضع أبرز آرائه وأفكاره في كتاب “روح القوانين” وفي بعض التراجم “روح الشرائع”. هذا الكتاب هو حصيلة أربعين سنة من الأبحاث وجمع البيانات والسفر والتأليف والتأمل، وبذلك يمكن أن نقول عن الكتاب إنه خلاصة فكر مونتسكيو. علما أنه أصيب بالعمى في آخر فصول الكتاب فلجأ إلى من يملي عليه أفكاره ليكتبها بدلا عنه، حتى استطاع أن ينجزه كاملا كما هو موجود اليوم.
مونتسكيو يطرح مفهوما جديدا للقانون حيث يعتبره العلاقة التي تجمع كل أصناف الكائنات، “وبهذا المعنى فإن لجميع الكائنات قوانينها: للعالم المادي قوانينه، وللعقول الفائقة للإنسان قوانينها، وللحيوانات قوانينها وللإنسان قوانينه ¹. في هذا الكتاب “روح القوانين”، يبين مونتسكيو العلاقة بين نوع القوانين والحكومة ويشرح عملية تطور القانون عبر العصور كما يشرح أنظمة الحكم المختلفة ويوضح ماهية العلاقة بين القانون ونظام الحكم من جهة، وبين العادات والتقاليد والجغرافيا والمناخ وأسلوب الحياة والدين من جهة أخرى. الكتاب هو محاولة فكرية للوصول إلى أفضل نظام حكم ممكن أن يعود بالفائدة على الدولة وعلى الشعب. يبدأ مونتسكيو مشروعه الفكري بالحديث عن تطور القوانين وأنظمة الحكم عبر التاريخ ليخلص إلى أن قوانين كل بلد تحكمها عدة عوامل أهمها العامل الجغرافي العامل المناخي إلى جانب عوامل أخرى مثل المعتقدات الدينية والتقاليد والأعراف. ففي نظر مونتسكيو القوانين السائدة في منطقة صحراوية لا تصلح في جزء كبير منها للمناطق الباردة.
بعد أبحاثه ودراساته، سينتهي مونتسكيو إلى أن أفضل نموذج في الحكم والدولة يتحدد في ثلاثة نقاط رئيسية هي: نوع الدستور نوع نظام الحكم ومبدأ فصل السلطات. كما يقول إن أفضل قانون يلائم طبيعة البشر هو القانون المدني الذي ابتدعه العقل والفكر الإنساني. بالنسبة لنظام الحكم، يقول المفكر إن هناك ثلاثة من أنواع أنظمة الحكم ¹: نظام ملكي دستوري يحكم فيه الملك وفق مبادئ الدستور وتحت مراقبة البرلمان، والنظام الاستبدادي أو النظام الدكتاتوري يمسك فيه بمفاصل الحكم كلها شخص واحد بعينه، والنظام الجمهوري الذي يستمد شرعيته من الشعب مباشرة. وبرأيه أفضل هذه الأنظمة هو النظام الجمهوري الديمقراطي القائم على المساواة بين المواطنين وعلى صون حريتهم وكرامتهم وممتلكاتهم وأرواحهم.
كما أن في هذا النظام سيكون الشعب هو المصدر الأول والأخير للسلطة وليس الحاكم. ويتكون هذا النظام الذي ينادي به مونتسكيو من ثلاث سلطات هي: السلطة التشريعية أي البرلمان ومهمتها سن القوانين والشرائع، السلطة التنفيذية أي الحكومة أو رئيس الجمهورية وهي المسؤولة عن تنفيذ القوانين التي يشرعها البرلمان وإدارة شؤون الدولة، السلطة القضائية وهي المسؤولة عن الفصل في النزاعات سواء بين السلطة والمؤسسات أو بين المؤسسات والشعب أو بين أفراد الشعب.
ولمنع طغيان سلطة من هذه السلط على الأخرى، ولمنع تمركز السلطات الثلاث في يد شخص واحد أو سلطة واحدة، وضع مونتسكيو مبدأ شهيرا جدا لا يُذكر إلا وذُكر معه اسمه، وهو “مبدأ فصل السلطات”. فإذا تجاوزت إحدى السلط الحدود المرسومة لها، ستجد السلطتين الأخرتين لها بالمرصاد لإعادة الأمور إلى طبيعتها، فالسلطة هي حدود السلطة نفسها. ففي حالة اجتماع السلط الثلاث في يد واحدة فسينتج عنه النظام الديكتاتوري، وفي حالة أن سلطة من السلط الثلاث أساءت استخدام السلطة أو تبين أن بعض رجالاتها تمادوا في الفساد أو سوء استخدام صلاحياتهم، فإن مبدأ فصل السلط يمكنه تجنب مثل هذه السيناريوهات وذلك بكون إحدى السلطتين الأخرتين بإمكانها محاسبتهم ومقاضاتهم لمعالجة الوضع.
مونتسكيو لم يقف عند هذا الحد في فصل السلط، بل لا حظ أن مبدأ السلط إذا اعتُمد لوحده دون أن يكون هناك سلطة أخرى تراقبه أو تسيره أو تصحح اعوجاجه، فإن الأمر معرض للانحراف في أي وقت. ويتحدث مونتسكيو بهذا الصدد عن تحالف السلطات الثلاث في الفساد، ويتساءل من المخول لمراقبة مبدأ فصل السلطات في هذه الحالة؟ ليخلص إلى ضرورة وجود سلطة نقدية تراقب مبدأ فصل السلط ويقول إن هذا الأمر موكول للسلطة الرابعة وهي الصحافة. وهذه الأخيرة من واجبها أن تمارس الرقابة العقلانية والنقد البناء المنهجي بهدف انتظام سير عمل السلطات الثلاث وبذلك يقول مونتسكيو، سنضمن سلامة وحسن العمل وأيضا نزاهة المسؤولين لأن هناك من يراقبهم ومستعد لأن ينتقدهم ويفضح ممارساتهم. وستتحقق حرية المواطن الكاملة وتلتئم هذه الحرية مع عدالة الحكومة والدولة. هذه الأخيرة يقول الفيلسوف، لا يصح أن يوجد فيها أي شخص مهما علا شأنه أن يكون فوق القانون. ولمونتسكيو تعبير شهير في هذا الشأن حيث يعتبر القانون كالموت، لا يجب أن يَستثني أحدا على الإطلاق. هذه هي الدولة الحديثة من منظور مونتسكيو تتألف من دستور مدني من نظام حكم جمهوري يعتمد على ثلاث سلطات وأيضا ترتكز على مبدأ فصل السلطات الذي يُسير عمل الدولة بشكل منفصل وبشكل نزيه وشفاف. وأن تكون هناك سلطة نقدية رابعة هي الصحافة والإعلام لتصحيح أي اعوجاج يطرأ على مسيرة عمل هذا النظام. ولمونتسكيو مقولة شهيرة يقول فيها ” قبل كل شيء أنا إنسان بالضرورة، لكنني لست فرنسيا إلا بحكم الصدفة”. بهذا الشكل يكون مونتسكيو وضع قواعد النظام الديمقراطي أو مبدأ الديمقراطية الفضيلة، لكن ليست فضيلة سقراط وإنما الفضيلة التي قال إنها: “حب الوطن، أعني حب المساوات، إنها ليست فضيلة أخلاقية، ولا فضيلة مسيحية، ولكنها فضيلة سياسية”. ويقول أيضا “هي حب القوانين والوطن، هي الإيثار المتصل للمنفعة العامة على المنفعة الخاصة”.
التعاليق (0)