سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
“ الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين”
الفيلسوف الكندي
أفكار الفيلسوف لا يمكن إخراجها عن محيط حياته. وكل فلسفة تكون ابنت بيئتها ومتأثرة بمحيطها. فلسفة سبينوزا لا تخرج عن هذه القاعدة خاصة ما تعلق منها بما وراء الطبيعة أي عالم الغيب. لذلك ارتأينا قبل الخوض في فلسفة سبينوزا، أن نتحدث عن أهم حدث في حياته طبع فلسفته. ولعل أهم حدث في حياة سبينوزا هو ذاك الذي جعله يهتم باللاهوت والأديان اليهودية والمسيحية وبمباحث الفلسفة. هذا الحدث يتعلق بهجرة أسرته اليهودية من البرتغال إلى أمستردام بهولندا هربا من محاكم التفتيش التي كانت تَفرض على مُعتنقي الديانات المخالفة للديانة الكاثوليكية، إما تغيير ديانتهم أو الهجرة أو التعرض للسجن والقتل. وخوفا من محاكم التفتيش هذه، هاجرت أسرته إلى هولندا.
نبوغ سبينوزا جعل أسرته المتدينة توجهه ليكون أحد كهنة الكنيس اليهودي. لكن الشاب كانت له قناعة أخرى، الأمر الذي جعله يتعرض للطرد ليس من أسرته فحسب، بل حتى من طائفته اليهودية التي قاطعته ولعنته، وهو الأمر الذي أثر على نفسه بشكل كبير.
عانا سبينوزا من هذه المقاطعة لدرجة أنه لم يجد بيتا يأويه سوى عائلة مسيحية متدينة قبلت أن تستأجر له غرفة في منزلها. ظل سبينوزا مع هذه العائلة طيلة حياته. وحين انتقلت هذه العائلة إلى مدينة لاهاي بهولندا، انتقل معها سبينوزا وظل مستأجرا غرفة في منزلها الجديد. لم يستطع سبينوزا نقل أفكاره الفلسفية لهذه الأسرة التي ظلت على قناعاتها الدينية، رغم أن الكثير من الفلاسفة يُصنفونه في خانة الفيلسوف الملحد. توفي سبينوزا يوم الأحد حين كانت الأسرة التي يقطن في بيتها تؤدي صلواتها في الكنيسة.
قبل أن يضع أفكاره الفلسفية، اهتم “سبينوزا” بوضع طريقة أو منهج للعقل لبلوغ المعرفة الصحيحة. وذلك ليكون الإنسان قادرا على التمييز بين المعرفة الموثوقة والمعرفة الغير موثوقة. فبدأ الفيلسوف في منهجه هذا بطرح أسئلته حول صدقية كل شيء حوله من الحواس والعقل والمعرفة. وقد سار على خطوات ديكارت لأنه متأثر بمنهجه الشكي حتى أصبح يوصف بأنه ديكارتي الهوا. بل هناك من يعتبره ديكارتي أكثر من ديكارت نفسه. فإذا كان هذا الأخير طبق منهجه الشكي في كل شيء إلا الدين، فإن “سبينوزا” شك في كل شيء حتى الديانة اليهودية التي نشأ فيها ودرسها ليقوم بعد ذلك بنقدها.
في بحثه عن المعرفة الحقيقية، اعتبر “سبينوزا” أن أول شيء ينبغي الاهتمام به هو عقولنا وذلك لإصلاح ما بها من عيوب إن وجدت، حتى نجعل من العقل أداة موثوق بها للتفكير وبلوغ المعرفة الحقيقية. وإصلاح العقل يكون حسب رأي “سبينوزا” بالتمييز بين أنواع المعرفة التي يقول إنها ليست معرفة واحدة وإنما هي معارف من درجات خاضعة للتراتبية. وبذلك يقسم المعرفة إلى ثلاثة أنواع مرتبة في ثلاث درجات.
في الرتبة الثالثة تأتي المعرفة الاستقرائية كما أسماها “سبينوزا” والتي يسميها بعض الفلاسفة المعرفة الظنية التي تعتمد على الحواس. هذه المعرفة يقول المفكر، تأتينا من مصدرين: إما السمع أو بعض المعلومات والقضايا الشائعة بين الناس. هذا النوع من المعرفة لا يمكن الوثوق بصحتها حسب تصور “سبينوزا”. لذلك وضعها المفكر في الرتبة الثالثة على سلم المعرفة من حيث مصداقيتها.
في الرتبة الثانية تأتي المعرفة العقلية، والتي نحصل عليها عن طريق التفكير والاستدلال والاستنتاج العقلي. وهي معرفة يشترك فيها كل الناس لأنهم يملكون نفس طبيعة العقل. ويمكن أن نحصل على هذه المعرفة بعدة طرق. فمثلا يمكن أن نحصل عليها عن طريق الاستنتاج أي استنتاج شيء ما من شيء آخر، فمثلا يمكن أن نستنتج أن حجم الشمس الحقيقي هو أكبر بكبير مما تبدو عليه بسبب أننا نرى جميع الأشياء يصغر حجمها كلما ابتعدنا عنها أو زادت المسافة التي تفصلنا عنها. برأي “سبينوزا”، هذه المعرفة وإن كانت صادرة عن العقل، إلا أنها تبقى أيضا عرضة للدحض والتخطيء. فقد نقوم بتجارب يمكنها أن تُثبت أو تُبطل هذه المعرفة الناتجة عن الاستنتاجات.
في الرتبة الأولى تأتي المعرفة الحدسية العقلية وهي أسمى وأرقى معرفة في فلسفة “سبينوزا”. هذه المعرفة نحصل عليها من خلال الاستدلال السريع والادراك المباشر. فواحد زائد واحد يساوي اثنان، بشكل بديهي وسريع نقول هي معرفة يقينية، ونحصل كذلك على هذه المعرفة من خلال معرفة القواعد العامة التي تُفضي إلى النتيجة الحقيقية، كأن نقول مثلا خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، أو أن أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم. ويعترف “سبينوزا” بأن المعرفة التي يمكن أن نصل إليها بهذه الطريقة ليست كثيرة لكنها تبقى الوسيلة الأضمن وأكثر أنواع المعرفة اطمئنانا من حيث صدقيتها.
في نظريته حول الوجود، حاول سبينوزا أن يضع مجموعة من التعاريف والقواعد التي سيعتمد عليها في تناوله لمبحث الوجود. وبذلك خلُص إلى أن الوجود هو جوهر واحد ونسق واحد ونظام واحد. يقول سبينوزا إن جوهر العالم لا بد أن يكون هو علة ذاته أي هو سبب وجوده. فإن لم يكن هو سبب وجوده فهذا يعني أنه يعتمد على شيء أو سبب آخر، وهذا لا يمكن أن يصُح بمقتضى العقل، لأن الأمر يعني أننا أمام جوهر غير محدود وغير متناهي وهو ما يعني سقوط صفة الجوهر عنه. وبالتالي فلا بد أن يكون هناك جوهر لا متناهي وكامل وشامل ومُكْتَف بذاته عمن سواه، وبهذا يكون الجوهر الذي يقف وراء الوجود هو جوهر واحد وهو الحقيقة الواحدة. ويمضي سبينوزا في منطقه قائلا بأن لهذا الجوهر الواحد العديد من الصفات لكننا غير قادرين على إدراكها جميعا، وأننا بمقدورنا إدراك صفتين منها فقط، وهما صفة الفكر وصفة الامتداد، ويقصد بذلك العقل والمادة أو القوانين الطبيعية والأشياء المادية التي تشكل الطبيعة.
وحسب سبينوزا الفكر والانتداب ليسا جوهرين مستقلين عن بعضهما البعض. وإنما هما صفتان لجوهر واحد، فهما موجودان كمفهوم وليس كشيء حقيقي ومستقل في الواقع. وبشكل أوضح هما وجهان لعملة واحدة وهي الجوهر الواحد الذي يفسر به سبينوزا الوجود والطبيعة. وبذلك يكون سبينوزا يؤمن بوحدة الوجود حيث يقول إن العقل هو الجسد والجسد هو العقل. وهو ما نجده في فلسفة الحلاج الذي يؤمن بنظرية الحلول أي حلول الله في مخلوقاته أو بعضهم واتحاده معهم. ونجده كذلك في فلسفة محيي الدين ابن عربي المعروفة بالاتحاد والتعالي. وهي مفاهيم نجدها كذلك في الفلسفات القديمة كالفلسفة الهندية والصينية واليونانية.
التعاليق (0)