فسحة الصيف مع الفلسفة الحلقة -13-..القديس أوغسطين فيلسوف البحث عن السعادة

القديس أوغسطين فسحة الصيف

سعيد الغماز/

 

الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.

الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين”

                                                                                                           الفيلسوف الكندي

 

يَعتبر أوغسطين أن الغاية من دراسة الفلسفة هي الوصول إلى السعادة. وتأتي ملامح فلسفة القديس من واقع تجربته الحية، ذلك لأن فلسفة العصور الوسطى، فلسفة مسيحية، تهتم بالعمل والإخلاص، لهذا كان البحث عن السعادة الهدف الذي سعى إليه القديس أوغسطين. وهو يعتبر أن “الفلاسفة في بحثهم عن السعادة ومحاولة استكشافهم الحقيقة لم يصلوا إليها كاملة، بل نالوا قبسا منها واعتقدوا خاطئين، أنهم نالوها كلها، ومن هنا تنشأ الأخطاء، والأضاليل، إذ لا يستطيع العقل بجهده الذاتي الخالص أن يصل إلى الحقيقة المطلقة، ومن هنا كان في حاجة إلى من يساعده. كما أنه أي  العقل البشري، في حاجة إلى من يهديه ويكشف له الطريق ويؤمنه من مخاطره.

السعادة التي بحث عنها اوغسطين هي السعادة نحو الله، ويقول في كتابه مدينة الله: “وما من سبب يحمل الإنسان على درس الفلسفة سوى ما يشعر به من رغبة في السعادة، أما ما يجعل الإنسان سعيدا فهو غاية الخير، وتالياً كل شيعة لا تبغي الخير ليست شيعة فلسفية”. أوغسطين في حديثه عن السعادة لم يخرج عن منهجه القائم على فكرة أن الله مصدر الحقيقة. ويقول “إن الحياة السعيدة هي النعيم في الله، ومن أجل الله، ولا شيء غير هذه الحياة يمكن أن يسمى سعيدا، فالسعادة والحقيقة شيئان مترادفان. والذي يطلب الواحد يطلب الآخر، وذلك لأن مصدرهما واحد، هو الله”. فجميع المباحث التي تطرقت لها فلسفة أوغسطين، كالحقيقة والله والعالم والنفس، حاولت حلها بربطها بالله.

اهتم القديس أوغسطين بثلاثة جوانب في الفلسفة: الفلسفة البحثة والتي عرض فيها نظريته حول الزمان، وفلسفة التاريخ التي لخصها في كتابه “مدينة الله”، ونظريته المتعلقة بالخلاص. كانت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى تستعمل فلسفة أفلاطون وخاصة نظريته حول المُثل، في مواجهة الأفكار الأخرى، لكن أوغسطين طرح فلسفة مغايرة لفلسفة أفلاطون بخصوص خلق الكون ويعتبر أن الأفلاطونية تتعارض في بعض النقاط مع ما جاء في الكتاب المقدس. يقول أوغسطين إن أفلاطون في حديثه عن الخلق يتخيل مادة أولية يقوم الإله بإعطائها الصياغة والشكل، وهو ما يَصْدُق كذلك على أرسطو. وبذلك يكون الإله في فلسفة أفلاطون بمثابة صانع أو مهندس معماري وليس خالقا للكون، والمادة هي قديمة وذات وجود أزلي وغير مخلوقة. الصياغة وحدها هي التي يُمكن أن تُعزى للإله عند أفلاطون وأرسطو. ويذهب أوغسطين في فلسفته عكس هذا الاتجاه إذ يعتبر أن العالم قد خُلق لا من مادة معينة بل من العدم. فالله هو الخالق للمادة وليس مجرد منظم أو مرتب لها. ويعتقد أوغسطين كباقي المسيحيين، أن الله خلق الكون كله الروحي والمادي من العدم، ويوضح أن الله لم يخلق الصورة الكامنة في المادة فقط، بل حتى المادة التي تُشكلها، أي أنه خلق المادة والصورة خلقا متزامنا.

أما عن مفهوم الزمان، فإن القديس أوغسطين يذهب إلى القول بأن الزمان قد خُلق عندما خَلق الله العالم. فالله أزلي بمعنى أنه خارج عن نطاق الزمان، ولا يوجد قَبْل أو بَعْد بالنسبة للإله، وإنما يوجد حضور أو آن أزلي أبدي. هذا المفهوم للزمان، قاد القديس إلى نظرية مُبتكرة عن النسبية حيث يتحدث أوغسطين عن الماضي والمستقبل من حيث وجودهما موضوعيا، ويقول إن الماضي كما نُحسه هو حاضر مضى، والمستقبل هو حاضر مُتوقع أو مُرتقب. فالزمان عنده ظاهرة عقلية، وفي النفس نقيس الزمان، لكون الزمان هو “امتداد النفس والماضي ذاكرة، والمستقبل توقع، والحاضر انتباه”، كما جاء في كتاب أوغسطين. وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن الحاضر هو البعد الوحيد والحقيقي قياسا إلى الأبعاد الأخرى. ومعنى هذا المفهوم هو أن أوغسطين يَرُد الزمان إلى ذاتية المرء، وهكذا صار المفهوم الذاتي عند أوغسطين بمثابة استشراف لنظرية كانط عن الزمان وبمثابة استشراف للكوجيطو عند ديكارت. أما بخصوص التنجيم الذي كان منتشرا في عصره، يقول عنه القديس إنه ليس عملا شريرا فحسب بل إنه زَيْف من الزَّيْف أيضا. ويُدلل على ذلك باختلاف الحظ بالنسبة للتوأمين مع أنهما ينتسبان لنفس البرج الذي يعتمد عليه المُنَجِّمون في التنجيم.

ولعل أهم نظريات أوغسطين هي ما جاء في كتابه “مدينة الله”. وتتحدد أسباب نزول هذا الكتاب في الضعف الذي بدأت تعرفه الإمبراطورية الرومانية منذ 410م حيث بدأت تتعرض لهجمات متتالية من طرف الوثنيين القوطيين إلى أن سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية في 476م. فبدأت الكثير من الآراء تعزي هذا السقوط للديانة المسيحية التي تسببت بأفكارها في ضعف الإمبراطورية بعد أن كان يهبها القاصي والداني قبل تحولها للديانة المسيحية.

هنا سيطرح أوغسطين كتابه الذي يُفسر فيه فلسفته لفهم ما جرى. يقول أوغسطين إن هناك مدينة الله ومدينة الشيطان. مدينة الله المبنية على العدل والسلام والازدهار والاستقرار وكل الفضائل الحسنة مكانها ليس في الأرض وإنما مكانها في السماء، أما مدينة الشيطان التي يسود فيها الشر والفوضى وكل المساوئ هي التي نعيش فيها على هذه الأرض، وبالتالي فمن الطبيعي أن تتعرض الدولة الرومانية وغيرها من الدول للضعف وللاندحار والانهزام، فليس من المنطقي أن يتم تحميل الفكر المسيحي ما تشهده الدولة الرومانية من ضعف وهزائم. بهذه الفلسفة المستمدة من الديانة المسيحية القائمة على مفهوم الخطيئة في خلق الكون، أراد أوغسطين الرد على من يُحمل الفكر المسيحي ضعف الإمبراطورية الرومانية.

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً