في عوالم السياسة، لا توجد “كلمات عابرة”. كل مصطلح، وكل “زلة لسان”، هي في الحقيقة نافذة تطل مباشرة على “اللاَّمُفكر فيه” في العقل السياسي، وتكشف عن البنية العميقة لمنطق ممارسة السلطة. التصريح الذي راج تسجيل فيديو له عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت منسوبا لوزير العدل، السيد عبد اللطيف وهبي، وهو قيادي بارز وأمين عام سابق لحزب الأصالة والمعاصرة الليبرالي (PAM)، خلال مناقشة الميزانية الفرعية لوزارته ولمجلس الأعلى للسلطة القضائية برسم السنة المالية 2026 في البرلمان ضمن أشغال لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات: “من رأى منكم الفساد بعينيه فليأت ليضع على شفتي أحمر الشفاه” (وبالدارجة: “لّي شاف منكم الفساد إجي إعكر ليَّ”)، هو نموذج مثالي لذلك. فهذا التصريح ليس مجرد “شعبوية” فاشلة أو “مُزحة” ثقيلة في سياق جاد؛ إنه “عَرَض” مركب يكَثِّف ثلاث أزمات متداخلة: أزمة في منطق المُساءلة، وأزمة في الخطاب القيمي للدولة، وأزمة في استبطان ثقافة “دونية” مهينة تجاه المرأة.
إن أول وأخطر الأبعاد التي يجب التوقف عندها هي دلالات رمزية “أحمر الشفاه” وما تستبطنه من تكريس للدونية تجاه المرأة. فقبل الخوض في الأبعاد السياسية، يجب التساؤل عن سبب اختيار “العُكار” تحديداً كـ”عقوبة” رمزية لثبوت الفشل. هنا يكمن البُعد الأخلاقي والثقافي الأعمق؛ ففي المِخيال الذكوري التقليدي، لا توجد إهانة لرجل “ذي سلطة” أكبر من “نسونته”)جعله من النسوة( أو تجريده الرمزي من “رجولته” المفترضة. هذا الربط يستبطن رسالتين مدمرتين: الأولى هي اختزال المرأة في رمز للسطحية أو الزيف مقابل جدية الرجل، والثانية هي وضع المرأة (التي تستخدم أحمر الشفاه) في خانة “المهزوم” أو “غير الجدير بالثقة” في حال ثبوت الفساد. وهنا تبرز المفارقة التحليلية الصارخة، إذ كيف يمكن لقيادي يمثل حزباً ليبرالياً يدّعي الحداثة والانفتاح أن يستخدم مثل هذا الخطاب الذي يعكس بنية فكرية ذكورية متخلفة؟ إن هذا التناقض ينسف مصداقية الخطاب الرسمي للحزب حول “المناصفة”، ويكشف عن بُنية فكرية عميقة لا تزال تحكم العقل السياسي.
وبالانتقال إلى البُعد السياسي، يصبح تصريح “أروني الفساد” ترجمة واضحة لمنطق التنصل من المسؤولية، وتحديداً في ضوء استقلالية النيابة العامة بعد دستور 2011. فما قاله الوزير عن مطالبته للمواطنين أو النواب بإحضار من “رأى الفساد بعينيه” ليس مجرد “قلب” خطير لعبء الإثبات، بل هو “تهرب” ذكي من مسؤولية الوزير الحقيقية. فمسؤوليته (بصفته وزيراً للعدل) لم تعد قضائية تتعلق بـ”التحقيق” في الملفات (بسبب استقلالية النيابة العامة)، بل أصبحت مسؤوليته سياسية تشريعية وإدارية؛ أي وضع “السياسات” و”التشريعات” لمكافحة الفساد، وتوفير “الميزانية” اللازمة لتعزيز حكامة قطاع العدالة. وبدلاً من أن يقدم خطته التشريعية، وجه الوزير النقاش إلى منطقة ليست من اختصاصه، وحوّل تقصيره “السياسي” في الإقناع بخطته إلى “تحدٍ” موجه للآخرين في مجال قضائي مستقل.
أما البُعد المؤسساتي والأخلاقي الثالث، فيكشفه “منطق التحدي” ذاته الذي اعتمده الوزير في مواجهة المؤسسة التشريعية، وهو منطق يقود حتماً إلى تآكل الثقة بين المواطن والدولة. هذا الخطاب لا يحمل أي نبرة “تواضع” أو “استعداد للمساءلة” في سياق رقابي برلماني، بل يوحي بنوع من “الغطرسة” والشعور بالحصانة في مواجهة المنتقدين. بالنسبة للمواطن، فإن سماع المسؤول الأول عن “سياسة العدالة” يتحدث بهذه “الخفة” و”الهزلية” (عبر رمزية العُكار) عن ملف مصيري، هو رسالة مدمرة. إنها رسالة “لامبالاة” تقول للناس: “معاناتكم مع الفساد ليست سوى كلام سطحي”، مما يضعف هيبة المؤسسة التشريعية ويزيد من الفجوة بين السلطة والشارع.
وختاماً، فإن تصريح “أحمر الشفاه” ليس مجرد خطأ تواصلي، بل هو “فعل سياسي” بامتياز يجسد أزمة مركبة. إنه يكشف عن بنية تفكير تستخف بالمرأة، وتتهرب من المسؤولية السياسية بغطاء “استقلالية القضاء”، وتتعامل مع المؤسسات الرقابية بمنطق “التحدي” لا “المساءلة”. والأخطر، أنه يأتي من قيادي في حزب يدّعي الدفاع عن الحداثة، مما ينسف صورة هذا التيار برمته. إن مكافحة الفساد لا تحتاج إلى “عُكار” لتزيين الفشل أو إخفاء العجز عن وضع السياسات الناجعة، بل تحتاج أولاً إلى خطاب سياسي “رصين” يحترم عقول المواطنين والمؤسسات، وثانياً إلى إرادة حقيقية لتجفيف المنابع التشريعية والإدارية للفساد. وأي شيء آخر ليس سوى “مكياج” سياسي رديء، سرعان ما يزول ليُسفر عن الحقيقة.
تيزنيت – 14 نونبر 2025
عبد الله صمايو
فاعل مدني مهتم بتقييم السياسات العمومية
