بقلم: احمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
لم تدخل كرة القدم إلى القارة الإفريقية باعتبارها مجرد لعبة، بل جاءت محمولة على أقدام المستعمر، كأداة ترفيه للجنود والموظفين الأوروبيين، قبل أن تتحول، مع مرور الزمن، إلى وسيلة مقاومة ناعمة ورمز من رموز التحرر وبناء الهوية الوطنية. وبين لحظة الإدخال القسري ولحظة التملك الشعبي، قطعت الكرة الإفريقية مسارًا معقدًا يعكس تاريخ القارة ذاته: من الهيمنة إلى الاستقلال.
- كرة المستعمر: لعبة النخبة والتمييز
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أدخلت القوى الاستعمارية الأوروبية كرة القدم إلى إفريقيا، خصوصًا في شمال القارة وغربها. لم تكن اللعبة في بدايتها موجهة للأفارقة، بل كانت حكرًا على المستوطنين الأوروبيين والجنود والإداريين.
الملاعب كانت داخل الأحياء الاستعمارية، والفرق تحمل أسماء أوروبية، بينما كان الأفارقة إما متفرجين أو عمال صيانة وتنظيم.
لكن هذا الإقصاء لم يدم طويلًا. فسرعان ما التقط الشباب الإفريقي جوهر اللعبة، وبساطتها، وقابليتها للانتشار في الأزقة والساحات الترابية، لتتحول كرة القدم إلى مساحة للتعبير عن الذات، وكسر الحواجز الاجتماعية والعرقية التي فرضها المستعمر.
- من الهامش إلى المقاومة
مع تصاعد الحركات الوطنية في الأربعينيات والخمسينيات، خرجت كرة القدم من كونها نشاطًا ترفيهيًا إلى مجال ذي دلالة سياسية. تأسست أندية وطنية تحمل أسماء ورموزًا محلية، وأصبحت الملاعب فضاءات لتجمع الجماهير وتبادل الخطاب الوطني، بعيدًا عن أعين السلطة الاستعمارية المباشرة.
في بلدان مثل الجزائر والمغرب وتونس ومصر وغانا، لعبت كرة القدم دورًا في تشكيل الوعي الجمعي. ويظل فريق جبهة التحرير الوطني الجزائري مثالًا صارخًا على تسييس اللعبة، حين اختار لاعبون محترفون التخلي عن مسيرتهم الأوروبية والانضمام لفريق يمثل ثورة شعب بأكمله.
- الاستقلال الكروي وبناء الهوية
مع حصول الدول الإفريقية على استقلالها السياسي، بدأت معركة أخرى: الاستقلال الكروي. تأسست الاتحادات الوطنية، وبرزت الحاجة إلى تنظيم إفريقي مستقل، فكانت ولادة الاتحاد الإفريقي لكرة القدم عام 1957، ثم إطلاق بطولة كأس إفريقيا للأمم كأول مسرح تنافسي يعكس سيادة القارة على لعبتها.
لم تكن البطولات الأولى مجرد منافسات رياضية، بل مناسبات سياسية بامتياز، ترفع فيها الأعلام الوطنية، وتُعزف النشيد الوطني أمام العالم، وتُعلن من خلالها إفريقيا أنها قادرة على تنظيم نفسها وصناعة رموزها الرياضية بعيدًا عن الوصاية الأوروبية.
- كرة القدم كقوة ناعمة
تحولت كرة القدم في إفريقيا، بعد الاستقلال، إلى أداة قوة ناعمة، تستخدمها الدول لترسيخ وحدتها الداخلية وتعزيز حضورها الخارجي. فالمنتخبات الوطنية لم تعد تمثل فرقًا رياضية فحسب، بل باتت تجسيدًا لطموحات الشعوب، وانتصاراتها المعنوية في وجه تاريخ طويل من التهميش.
وفي هذا السياق، لم يكن فوز الكاميرون أو نيجيريا أو مصر أو المغرب مجرد ألقاب، بل لحظات استعادة للثقة، وتأكيد على أن إفريقيا قادرة على المنافسة والإبداع حين تتوفر لها شروط عادلة.
- من الماضي إلى الحاضر: كأس إفريقيا بالمغرب نموذجًا
اليوم، ومع تنظيم المغرب لكأس إفريقيا للأمم، تعود كرة القدم الإفريقية إلى إحدى محطاتها الرمزية. تنظيم البطولة ليس حدثًا رياضيًا فقط، بل امتداد لمسار تاريخي انتقلت فيه القارة من موقع التلقي إلى موقع المبادرة، ومن الهامش إلى مركز الفعل.
فالملاعب الحديثة، والبنية التحتية، والاهتمام الإعلامي العالمي، كلها شواهد على تحول كرة القدم الإفريقية من إرث استعماري إلى مشروع سيادي، يعكس طموح قارة تسعى إلى كتابة تاريخها بقدمها، لا بقلم غيرها.
- خاتمة
كرة القدم في إفريقيا ليست مجرد لعبة شعبية، بل مرآة لتاريخ معقد من الهيمنة والتحرر، ومن الصمت إلى التعبير. من ملاعب المستعمر المغلقة إلى مدرجات الجماهير الحرة، قطعت الكرة الإفريقية رحلة تحرر موازية لمسار الاستقلال السياسي، وما تزال تكتب فصولها، هدفًا بعد هدف.
