هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

العنف ضد الأطفال وانعكاساته السلبية على شخصيتهم و تحصيلهم الدراسي

كُتّاب وآراء


ذ. محمد بادرة
ظاهرة العنف هي من أشد الظواهر الاجتماعية التصاقا بالمجتمعات الإنسانية وأكثرها اثارة للقلق لما لها من آثار سلبية خطيرة على الفرد والجماعة، وهي ظاهرة لازمة لكل المجتمعات البشرية حيث الفرد يتعايش مع كل تشكيلات العنف سواء منها المباشرة أو غير المباشرة الخفية أو العلنية بدءا من العنف الجسدي الى العنف الرمزي الى العنف الرقمي.
العنف هو ممارسة القوة فوق ارادة الناس لإثارة الفزع والخوف والهلع في محيط خاص أو عام وهو شكل من أشكال السلوك العدواني الناتج عن مأزق علائقي يصيب الشخص فيسعى لإيذاء ذاته أو تدمير الآخر بإبادته أو اهانته (اسنارد Issnarde). ان العنف كما حدد الباحث (اسنارد) سلوك عدواني سواء في علاقة مع الذات أو في علاقة مع الآخر.
وتناولت العلوم الاجتماعية مفهوم العنف من زوايا ومنظورات متعددة وحددت عددا من صوره كالتهديد Menace–التعذيب Torture–الاغتصابViolation- الجرحBlessure كما يحمل العنف معنى القهر بكل سياقاته ك(الظلم والاضطهادOppression) و (الاكراه Coercition) و(القمع Répression) و(الاستسلام والخضوع Sujétion) وهي من الصور الأكثر عنفا لعلاقات القوة والضبط الاجتماعي.
ومن بين النظريات العلمية الرائدة التي تفسر ظاهرة العنف نظرية فرض (الإحباط) ويقوم أصل هذه النظرية على ما توصل اليه عالم النفس الاجتماعي دولارد DOLLARD سنة 1939 ومفاده أن هناك ارتباط جدلي بين الإحباط والعدوان وهي العلاقة بين الإحباط كمثير والعدوان كاستجابة. ويرجع التوتر العدواني حسب هذه النظرية لدرجة وشدة الإحباط من ناحية وقوة الحاجة المحبطة من ناحية ثانية. كما تزيد درجة العدوانية بنمو عناصر الإحباط وصدّها يولد عدوانية لاحقة أي عدوانية موجهة لمصدر الإحباط .. وتزداد شدّة العدوانية نحو الذات حينما يصعب توجيهها نحو الآخر.. وهكذا فكل الإحباطات تزيد من احتمالية رد الفعل العدواني.
وفي دراسة موازية ومكتملة لهذه النظرية يرى بوركوتز BERKOWITZ أن الإحباط لا يؤدي دائما للعنف والعدوان ولكنه قد يسهم في التعزيز من هذه الظاهرة، وتنتج عنه ردود فعل غير العدوان مثل: البكاء والغضب والانطواء والخوف والاحساس بالذنب والعجز والنقص أو الانسحاب من المنافسة والصراع.. وهكذا بدلا من حصر العلاقة بين الإحباط والعدوان هناك احتمال تعدد الاستجابات واختلافها.
العنف ضد الأطفال…ظاهرة شائعة و مشينة
تشمل ظاهرة العنف جميع فئات المجتمع الا أنها لذى فئة الأطفال تتخذ منحى خطيرا بسبب اعتمادها أسلوبا للتعايش مع الظاهرة تعزيزا لرغبة المؤسسات الاجتماعية والتربوية في ابراز القوة والهيمنة والتسلط مما ينجم عنه أسلوب تربوي يعمل على تقييد عقول الأفراد وكبت حريتهم وتكبيل تفكيرهم وهو ما يسميه البعض(نهج اغتيال العقول والنفوس).
ويمكن حصر أشكال العنف التي يتعرض لها الطفل في:
الاعتداء الجسدي من خلال تعرض الطفل للضرب واللكم والعض والحرق وقد يصل الاعتداء على الطفل من طرف أسرته الى مستوى فضيع كحرمانه من حقوقه الطبيعية أو ارغامه على فعل الأعمال الشاقة داخل البيت أو خارجه.
الاعتداء الجنسي وذلك حين يتعرض الطفل لأي سلوك شاذ أو اعتداء جنسي بالقوة ويشمل الاغتصاب واللواط والتحرش أو استغلال الطفل جنسيا عبر الصور الخليعة والمواقع الإباحية.
الاعتداء العاطفي ويمكن وصفه بالنمط السلوكي الذي يهاجم النمو العاطفي والاجتماعي لذى الطفل وصحته النفسية واحساسه بقيمته الدونية ويشمل الشتم والتحقير والترهيب والسخرية والاهمال والتجاهل.
التنمر الالكتروني من خلال التهديد اللفظي أو السلوكي عبر الرسائل النصية أو الشبكات الاجتماعية.
الاهمال بأنواعه المختلفة الجسدية والنفسية والعاطفية والتربوية، وهو الاهمال الذي يعبر عن الفشل في توفير الرعاية المناسبة للطفل من مسكن وملبس وغذاء وتربية وترفيه بالإضافة الى التوجيه والرعاية الصحية واشعاره بالأمن والأمان وغيرها من الاحتياجات الاساسية الضرورية لتنمية القدرات الجسدية والعقلية والعاطفية عند الطفل.
وتشير تقديرات عدد من المنظمات الانسانية المهتمة بشأن الطفل والطفولة أن أكثر من مليار طفل ويافع في المرحلة العمرية 02 – 17 عاما تعرضوا لعنف بدني أو جنسي أو عاطفي أو عانوا من الإهمال. كما كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن قرابة 400 مليون طفل في العالم دون سن الخامسة والسادسة أي 60% من الأطفال من هذه الفئة العمرية يتعرضون لعنف نفسي أو عقاب جسدي في منازلهم بانتظام !!
وفي المغرب أظهر التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة لسنة 2023 ارتفاعا في عدد القضايا المتعلقة بالعنف ضد الأطفال حيث تم تسجيل ما مجموعه 9106 قضية بزيادة ملحوظة مقارنة بعام 2022 الذي سجل 7931 قضية، وكشف التقرير نفسه زيادة مماثلة في عدد الأطفال الضحايا حيث بلغ عددهم 9357 ضحية في عام 2023 مقارنة ب8159 ضحية في عام 2022 وهذه الأرقام تعكس حجم المعاناة التي يعيشها أطفالنا في مجتمعنا.
ان العنف بجميع أشكاله يترك آثارا ضارة وطويلة في مسار وحياة الطفل فإضافة الى التأثيرات الجسدية للعنف فان الطفل المعنّف يتعرض لمشاكل عاطفية وأخرى صحية وعقلية بما في ذلك الاكتئاب والقلق والخوف والانطواء والانزواء والعجز عن التعبير عن النفس مما قد يقود الطفل الى الإدمان والأجرام أو حتى الانتحار.
العنف الأسري .. صورة مصغرة عن عنف المجتمع
العنف الأسري يؤدي الى تعطيل طاقات النمو عند الطفل، ويستخدم كثير من الآباء والأمهات أسلوب الضرب المباشر ضد أطفالهم ذكورا واناثا، والتأنيب المستمر، والأحكام السلبية ضدهم لضبط سلوكهم وامتثالهم، كما تلجأ بعض الأمهات والجدات الى تخويف أبنائها وحفدتها عبر سرد حكايات خرافية وعجائبية تفوح منها رائحة الموت والقتل والافتراس والحرق.
الأسلوب المهيمن في تنشئة الطفل هو أسلوب التهديد والتخويف وخلق الرعب في نفسيته بصورة لا تخلو من العنف المادي والرمزي والذي تمتد آثاره خلال مسيرة حياته كالخوف من الغولة، ومن الجن، ومن الظلام، ومن الكلاب، ومن الأشرار، ومن الفقيه والمعلم،، وتتم تربيته وفق ثنائية (ْاما – أو) أي قم بهذا العمل أو ستتعرض للضرب ولغة العصا والضرب والتهديد لا تترك مكانا لخيار آخر غير الادعان للأوامر ولا تقبل النقاش أو الحوار وعندما يعشعش الخوف والقهر في عقل ووجدان الطفل فانه يفقد حريته وفطرته وطبيعته البريئة فلا يكون أمامه سوى امتصاص أنماط التسلط والعنف التي يمارسها اباؤهم وأمهاتهم ويكتسبون منهم معظم أدوارهم الخاصة بالسلطة والقهر.
والأطفال المعرضين للعنف والإساءة بكافة أشكالها يكونون أكثر عرضة للمشاكل والصعاب التي تؤثر على سلوكهم وعلاقاتهم بشكل سلبي وبالتالي ينعكس ذلك على علاقة الطفل بمحيطه وخوفه من الاتصال بالآخرين بل وتقوده الخوف والعنف الى حد الانتحار.
العنف الأسري يعكس آثاره السلبية على شخصية الطفل فيتحول لشخص عدواني غير مكترث بمشاعر الآخرين ويبدأ بالتعدي على زملائه ومدرسيه في المدرسة ويصبح شخصا غريبا مخربا للأثاث والممتلكات.
ومن آثار العنف الأسري تراجع التحصيل الدراسي للطفل حيث ينشغل تفكيره حول كيفية تطوير سلوكه العدواني في إيذاء زملائه وتخريب ممتلكات وتجهيزات المدرسة ويسعى دوما لخلق الفوضى في الفصل الدراسي وفي أحسن الحالات الركون والشرود واهمال الدروس فتنشغل ادارة المدرسة بتتبع سلوكاته العدوانية أو تغيباته غير المبررة أكثر من متابعة تحصيله الدراسي وهذا ما يعرقل مسيرته التعليمية.
وأشارت الدراسات المنجزة من طرف الباحثين والمؤسسات الدولية ذات الصلة بمجال التربية والطفولة أن العنف ضد الأطفال يقود الى نتائج سلبية وخيمة منها انخفاض التحصيل الدراسي والاكتئاب والشعور بالذنب والخجل واختلال الصورة الذاتية والعزلة وضعف الثقة بالنفس وضعف التركيز والشعور بالعدوان المضاد والتحول نحو الاجرام وغيره وبعد أن يتعرض الطفل لهذه السلبيات أو بعضها ويصبح مضادا للأسرة والمجتمع وعندما تزيد الأسرة من وتيرة العنف ضده يندفع الى الإدمان والاجرام أو الانتحار كما أن التنشئة الاسرية العنيفة تضعف تحقيق الطفل لذاته فلا تمكنه من اشباع حاجاته كما يحسها بنفسه وتؤدي الى تشكيل شخصية ضعيفة مرتعبة تخشى السلطة وخجولة لا تثق بنفسها ولا بغيرها وغير مستقلة تعتمد على غيرها أو تكون عدوانية تعتدي على الآخرين أو على ممتلكاتهم.
العنف المؤسساتي واندحار التحصيل الدراسي
تقوم المدرسة بعملية القهر والشلل الذهني من خلال سلسلة طويلة من الأنظمة والعلاقات التسلطية يفرضها نظام تربوي جامد وعاجز عن الوصول الى عقول التلاميذ الا من خلال العنف والعنف الجسدي –احيانا- ولو بنية حسنة بهدف ضبط الشرود الذهني والحالات النفسية الانفعالية والاضطرارية للطفل فتتغلب ثقافة الخوف والامتثال على ثقافة الجرأة في السؤال والشك والمشاركة والحرية والمبادرة والاقناع، وتتحول الدراسة الى عملية تدجين تفرض الاخصاء الشخصي والفكري على الطفل كي يكون مجرد أداة راضخة ويتم ذلك بالطبع تحت شعار غرس القيم (قيم الاحترام والطاعة والنظام وحسن السيرة والسلوك) فلا يسمح للتلميذ أن يعمل فكره، أو أن ينتقد، أو أن يحلل، أو أن يتخذ موقفا شخصيا، لا يسمح له ببساطة أن يكون كائنا مستقلا ذا ارادة حرة وبالتالي يقع ضحية عملية خصاء ذهني وعنف أسري تترك آثارا سلبية على شخصية الطفل وتسبب في تراجع تحصيله الدراسي ونمو سلوكيات تمردية وسلوكيات عدوانية، واذا لم تعالج ظاهرة العنف المستشرية في المؤسسة التربوية وتجفيف منابعها والقضاء على مصادرها وأسبابها فان تمرد الطفل واليافع قد يقود لاحقا الى عنف شامل يتجاوز أسوار المدرسة ليهدد الأمن الاجتماعي كله وما نحن بعيدين عن ردود افعال شباب جيل Z.
في دراسة نشرها مكتب الرباط في عام 1917 تحت عنوان (تحليل وضعية العنف في المؤسسات التعليمية في المغرب) ترى منظمة اليونيسكو أن مظاهر العنف داخل النظام التربوي المغربي قد زادت خلال السنوات العشر الأخيرة، وتجدر الإشارة أن هذه البيانات الإحصائية صادرة عن وزارة التربية الوطنية وعن مرصد العنف الذي أنشأته الوزارة وقد سجل هذا الأخير حوالي 24 الف حالة عنف موسم 2013-2014 ووفقا لهذه الدراسة سجلت الغالبية العظمى من حالات العنف في المدارس الابتدائية (69%)والباقي في المؤسسات الثانوية الاعدادية والتأهيلية (31%) أي 7748 حالة فيما يتعلق بمرتكبي أعمال العنف فان الحالة الأكثر شيوعا هي العنف بين التلاميذ (64%) وتليها حالات الأضرار بممتلكات المدرسة من قبل التلاميذ (8%)ويأتي العنف بين التلاميذ والأساتذة في المرتبة الاخيرة (7%)
وتؤكد دراسة البرنامج الوطني لتقييم مكتسبات التلاميذ التي أجريت سنة 2019مع تلاميذ السنة السادسة ابتدائي والسنة الثالثة اعدادي أن العنف منتشر على نطاق واسع في المدارس الابتدائية والثانويات الاعدادية حيث صرح ربع أطفال المدارس الابتدائية وأكثر من ثلث تلاميذ الاعداديات أنهم كانوا ضحايا العنف اللفظي على يد أقرانهم وصرح 13% من تلاميذ الابتدائي و25% من تلاميذ الاعدادي أنهم أهينوا من قبل أساتذتهم وصرح ربع تلامذة التعليم الابتدائي والاعدادي(25%) بأنهم تعرضوا للاعتداء الجسدي على يد أقرانهم. وتؤكد هذه الدراسة وغيرها التأثير السلبي للعنف الجسدي أو اللفظي في مكتسبات التلاميذ ذلك ان تلاميذ السنة السادسة من التعليم الابتدائي الذين تعرضوا مرارا وتكرارا للعنف الجسدي أو اللفظي يحصلون على نتائج تقل بكثير عن نتائج أقرانهم الذين لم يتعرضوا للعنف أو تعرضوا له بشكل نادر وتتراوح الفوارق بين نتائج تلك الفئتين بين 12 الى 17 نقطة حسب المواد الدراسية وتزداد قوة التأثير السلبي للعنف الجسدي واللفظي في نتائج التلاميذ في التعليم الاعدادي حيث تتراوح الفوارق بين نتائج التلاميذ ضحايا العنف ونتائج أولئك الذين لم يتعرضوا له بين 18 و27 نقطة حسب المواد الدراسية .
ذ. محمد بادرة