agadir24 – أكادير24 /ذ. محمد بادرة
ما يلفت الانتباه ان تاريخ المدن في الغرب وتاريخ مجتمعاتها تولد بقوة تأثير وحركية المجتمع المدني وصيغ العقد الاجتماعي و قانون النظام الجماعي لهذه المدن بفعل حركية الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين من احزاب ونقابات ومنظمات وجمعيات اهلية كما ان مسار التحديث والتمدن الذي شهدته المدن الغربية ومجتمعاتها حدث في كنف التدرج والتواصل والتناغم بين الشكل التقليدي(العمارة البيزنطية والرومانية – عمارة الكنائس والاديرة والحصون والقلاع..) والحياة الاصيلة بقيمها ومعاييرها.. كل ذلك في تناغم وتصالح مع نمط الحياة الجديدة المعاصرة في حداثتها ودون حدوث فوضى او اضطراب بين النموذجين مما اتاح لهذه القوى الاجتماعية (قوى الاصلاح والنهضة والتنوير) ان تنضج بالقدر الذي سمح لها ان تكتسب استقلاليتها إزاء مؤسسات الدولة ونظامها السياسي العام وهذا عكس ما عرفته مدننا ومجتمعاتنا المحلية او الاهلية والذي عرف فيها مسار المدن والحواضر حالات من الفوضى والاضطراب العمراني والبيئي والاجتماعي والاخلاقي فكانت القطيعة بين الاصيل والدخيل بين القديم والجديد بين الماضي والحاضر نتيجة طبيعية لحركة الغزو الثقافي والفكري المفروضة علينا من الخارج والتي كانت السبب في تدمير البنية التحتية لسلوك الافراد وهدمت اسس بنيان مدننا وعمرانها بدعوى انتشال مجتمع مدننا من اوضاع التوحش والبدائية ووضعها على سكة الحداثة والتقدم والاعمار وكان ذلك سببا في هدم الخصوصية العمرانية لمدننا وحواضرنا وسببا في تدمير هويتنا الثقافية والاخلاقية والاجتماعية.. ودون ان تعطي محتوى ثقافي هوياتي- عمراني لفضاءات ومعمار وواقع مجتمع مدننا وحواضرنا وهو ما يعني غياب وضعف تأثير القوى الاجتماعية او الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين مما سمح لجهاز الدولة واداراتها المركزية ان تفرض وجودها وتأثيرها وان تبقى الفاعل الاجتماعي والاقتصادي والقانوني في تدبير نظام مدننا وحواضرنا.
ان السياسات الحضرية في مدننا لا تنطلق من حاجيات وواقع هذه المجتمعات المحلية وانما من الصورة النمطية التي تريد الدولة ان يكون عليها ذلك المجتمع مما جعل من مؤسسات المجتمع المحلي من جمعيات ومنظمات ومجالس بلدية…مجرد ادوات في يد الاجهزة الادارية المركزية لتبرير سياستها وهذا ما ادى الى غياب او ضبابية الهوية الثقافية والعمرانية للمدن والحواضر وجعل ساكنة هذه المدن الجديدة خصوصا تقطع الصلة مع ثقافة وقيم واعراف المجال القديم (القرية – الحي – الدرب ..) ودون ان تتمكن من اعطاء محتوى ثقافي للمجال الحضري الجديد.
ان كل ما في واقع مدننا الجديدة يوحي بانسحاق القيم الاجتماعية الاصيلة ويظهر هيمنة مشاهد الفقر والتسول والتهميش والدعارة والادمان والعنف كما يفرز لنا مشاهد غاية في التنافر والتناقض حيث وجود احياء من القصدير ومساكن بدائية من القش والطوب والحجر لا تستجيب للذوق ولا لنظام العمران الاصيل ولا تنسجم مع نواميس العمران الجديد… وتقابلها وبصورة صارخة بنايات وعمارات عصرية ذات طوابق شاهقة تستمد اصولها من ثقافة عمرانية دخيلة على المكان وتصطحبها انماط حياة تقوم على الثقافة الاستهلاكية من استهلاك بذخي يرتبط بفئات محدودة انخرطت في اقتصاد الرفاه وهي تتضارب مع مشاهد الفقر والبؤس المنتشرة في احياء وتخوم المدينة مغذية عبر السلوكات اليومية الشاذة ثقافة العنف مجسدة في الاستيلاء والاغتصاب وادمان المخدرات حتى باتت تلك الاحياء فضاءات يعشش فيها التطرف الفكري والسياسي وتعمرها عصابات تتخذ من العنف سبيلا لفرض ذاتها في واقع يلفظ اصحابها.
هذه الفوارق الاجتماعية المتوحشة خلقت حالات من التشرذم الاجتماعي والتهميش الطبقي وحولت مجتمع المدينة الى “قطيع سلبي” يستبطن العنف المادي والمعنوي المسلط عليه ويوفر اليات اعادة انتاجه تاركا شان ادارة المدن الجديدة لمجالس محلية عاجزة وفاشلة او متنافرة او متنصلة من برامجها الانتخابية ومن كل مسؤولية اخلاقية وسياسية واكثر ما تقوم به هذه المجالس المحلية هو ترقيع اوضاع الفقر او محاولة الحد منه قدر الامكان حتى لا يتفاقم ويفضي الى الأسوأ ويؤجل الانفجارات الاجتماعية. ويتجلى هذا الترقيع “التنموي” في سياسات النقل العمومي والسكن الاجتماعي وفي الخدمات العمومية.
في ظل هذه الاوضاع الاجتماعية المتفاقمة لأزمة المدينة او بالأحرى ازمة المخططات التنموية برمتها تضطر اجهزة الدولة واداراتها المركزية الى التدخل لفرض سياستها عبر عمليات التهيئة او مخططات توجيه التهيئة العمرانية الا ان اغلب هذه المخططات التنموية المحلية تبدو ضعيفة وغير فاعلة لأنها غير منصفة للفئات والشرائح الاجتماعية المتضررة والفقيرة ولا تضمن الكرامة للجميع ولا توفر الدخل وفرص الشغل للشباب فيزداد التهميش والفقر وينتشر العنف وتسود الصراعات الاجتماعية بين طبقات المجتمع في مدننا وحواضرنا.
هذه الاوضاع الشاذة في واقع مجتمع المدينة افقدت العلاقات الاجتماعية بين سكانها حرارتها الانسانية وافرغتها من شحنتها العاطفية والتضامنية وقضت على كل العلاقات الاسرية والقبلية والدينية وكل القيم التضامنية التقليدية المألوفة من قبل بل ان علاقة الافراد فيما بينهم مع الفضاء ومع “الحي” و”الحومة” لم تعد تقوم على التعاون والتآزر والحماية المشتركة للمساكن و حياة الساكنة حتى ان امر الفضاء العمومي لم يعد يهم امر ساكنيه وانما هو شان من شؤون الدولة ممثلة في اداراتها ومؤسساتها الترابية والتمثيلية نظافة وأمنا وتجارة وترفيها وغيرها من الخدمات والاعمال التي تديرها المجالس المحلية الى حد الاشراف على كل الاحتفالات والمناسبات الدينية والاجتماعية فتحولت العلاقات الانسانية والاجتماعية في مدننا الجديدة الى علاقات منمطة ولم يعد للجيرة والجوار من معنى بعد ان بات الجار يترصد اخطاء جاره ويتحين الفرصة للإيقاع به وليس غريبا ان الا يعرف الجار اسم جاره او ان يعامله معاملة الغريب للغريب لان ذهنه مسكون بهاجس الخوف من شر (الاخرين) وهو خوف رسخته ثقافة المجتمع المتنافر الذي يزرع في عقول الناس قيما انفرادية تغدي عقلية الخوف وسلوك الحيطة والحذر من اي كائن كان جارا كان او مارا او قاطنا بالحي (سد الشرجم للي غايجيك منو الريح …وارتاح).
وليس غريبا كذلك ان يشدد سكان المدينة في خطاباتهم اليومية على ان اهتماماتهم لا ينبغي ان تتجاوز حدود ذواتهم واسرتهم ومسكنهم حتى انهم يشددون في اقامة الفواصل الحديدية والاسمنتية بين كل باب وباب وبين كل بيت وبيت وبين الفضاء الخاص والفضاء العمومي لتنتفي كل اشكال التضامن المألوفة في مجتمعنا التقليدي والتي تعبر عن علاقة ما بالفضاء وبالغير قوامها التعاون والتآزر والترابط حتى اصبح امر المدينة بكل تفاصيلها لم يعد يهم ساكنيها وانما هو شان من شؤون الدولة واداراتها الترابية.
لقد تحولت المؤسسات التقليدية من قبيل “الحومة” و”الحارة” و”الحي” و”الدرب” من فضاءات تطفح بالحياة وحرارة العلاقات الانسانية الى مجموعة من المساكن المرقمة لا يعرف اصحابها بعضهم بعضا ولا تربطهم اي مصلحة مشتركة وهذا الموت الكلي للعلاقات الاجتماعية والانسانية كان في الحقيقة نتيجة طبيعية لمسار طويل ومعقد من تهميش الدولة للمجتمع التقليدي وتدجينه.
وما زاد من استفحال الاوضاع الاجتماعية وتردي العلاقات الانسانية هو استفحال ظاهرة الانتصاب الفوضوي للأكواخ والمساكن البدائية واحياء القصدير التي تغزو محيط المدن والحواضر وتحمل اسماء والقابا مهينة للسكان وللمدينة (دوار الليل – دوار لاحونا – حي بام – حي القادوس – دوار الكرتون -…) هذه التجمعات السكنية العشوائية تعد احزمة حمراء وبراكين موقوتة تنذر بالانفجار كلما وجدت الفرصة مواتية، فهي موطن طاقات شبابية اغلبها حاصل على شهادات عليا لكن افاق الادماج الاجتماعي مسدودة امامها وبرامج التغيير نحو حياة افضل منعدمة وذاك وضع كفيل بان يسقط هذه الطاقات في مطب العنف والتطرف الفكري والسياسي معيدة بذلك اعادة انتاج شروط التهميش والاقصاء ويزداد الوضع تعقيدا في ضعف تأثير او غياب دور مؤسسات المجتمع التقليدية (الاسرة الممتدة- الاعيان – الزوايا – الحكماء – …) خصوصا وان بلادنا ظلت طوال قرون تعتمد على دور هذه المؤسسات التقليدية والتي كانت دائما قريبة من حياة الناس واليوم تعرف تراجعا كبيرا من حيث سلطتها ومواردها وفعاليتها وقدرتها على الاستمرار في تلبية حاجيات الساكنة فانقلبت الاوضاع الاجتماعية الى ما هو اسوا وانتفت القيم وانعدمت العلاقات الانسانية لتحل محلها سلطة جديدة فرضتها الدولة كفاعل اجتماعي مركزي استطاعت احكام قبضتها على كل امور المجتمع المحلي فكانت القطيعة بين الماضي والحاضر بين الاصيل والدخيل ..لتموت العلاقات الاجتماعية الاصيلة والقيم الانسانية النبيلة في مجتمع المدينة بل تحولت هذه العلاقات الاجتماعية الى شبكة علاقات اجتماعية موجهة نحو المصالح حتى وضعتنا الحداثة الوهمية في منافسة حول الاستهلاك فضعفت الروابط الاجتماعية والقيم الانسانية ونمت اليات انتاج العنف كثقافة وكما يقول السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو (كلما تدرجنا في السلم الاجتماعي كلما ازدادت اللغة توحشا ) لان التهميش في المجالات الحضرية المتباينة لها علاقة مباشرة باليات انتاج الاقصاء والجريمة والعنف… التي ترمز الى غياب العدالة الاجتماعية وفرض القهر السياسي والاقتصادي والثقافي واستمرار حياة المهمشين في مدننا وهوامشها.
التعاليق (0)