منذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية الى اليوم وهذه الامبراطورية الامبريالية العملاقة تشهد صراعا هو من أعنف وأقسى الصراعات وأشدها ضراوة وأكثرها نبلا في نفس الأن، صراعا بين أنصار الديموقراطية والكفاح السلمي والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان وبين أنصار أحلام التوسع وقادة الامبراطورية العسكرية والاقتصادية وحكام الكونغرس، انه صراع مرير وشديد بين أمريكا موطن الالهام والتفوق والاختراع والثقافة والابداع وبين امريكا وأغنيائها وقادة حربهم بغطرستهم وقوتهم ونفودهم وعقلهم الامبريالي وحماقتهم …انها أمريكا ذات الوجهين !!!
أمريكا هي امبراطورية بلا حدود جغرافية وهي عملاق احتكاري لديها ميل دائم للتوسع وتعطش للقوة والعظمة والعنف والقسوة والمذابح وفي نفس الوقت هي امريكا جيفرسون ولينكولن ومارتن لوتر كينغ زعيم الكفاح السلمي من أجل العدل والديموقراطية وحرية الانسان.
أمريكا هي العالم الحر الذي بناه تجار الرقيق والعبودية حيث الأنسان كان سلعة تباع وتشترى دعما “للعالم الحر”، امريكا مجتمع مصنوع بالمذابح والمجازر والقتل ضد الهنود الحمر وضد الافارقة السود، مذابح دبرها المستعمرون البيض بلا رحمة ولا شفقة لإبادة السكان الاصليين.. أمريكا هي التوسع الاستعماري بمؤامراته ودسائسه ومجازره في النصف الجنوبي اللاتيني من العالم الجديد، أمريكا تعني القتل والعنف والصراع الدامي لرعاة البقر وتعني امبراطورية المواد الأولية من اجل الثروة والسطوة والنفوذ.
أمريكا ليست فقط مركز العالم الجديد بل كذلك موطن العصابات الاجرامية والتعصب الشائن والعنصرية البغيضة هي امريكا فوستر دالاس والان دلاس و مكارتي.
أمريكا قلعة من قلاع الاستعمار الجديد لها تاريخ أسود من المذابح التي راح ضحيتها الملايين في كوريا وفيتنام وهيروشيما ونكازاكي بالصواريخ والقنابل الذرية، وفي جواتيمالا والدومينيكان وشيلي عبر مؤامرات وكالة المخابرات المركزية والشركات العالمية متعددة الجنسية.
وفي صورة أخرى هناك امريكا بوجه مغاير، أمريكا المعادية للعنصرية والمعادية للحرب والمقاومة للمظالم وعدم المساواة في المجتمع الراسمالي، وهي صورة أمريكا كما رسمها توماس جيفرسون ولينكولن، أمريكا الصراع ضد النازية الهتليرية في الحرب العالمية الثانية، أمريكا الشعراء والفنانين والكتاب الإنسانيين الكبار امثال التر ويتمان وأرنست هيمنجواي وريتشارد رايت وهاوارد هيوز… أمريكا هربرت ماركوز بكتاباته الجريئة، وأمريكا التر ليبمان الصحفي الناقد الناقم على الاعلام والديموقراطية الأمريكية وأمريكا أنجيلا ديفيس مؤسسة حزب الفهود السود ومارلون براندو وهنري فوندا وكل الذين ناضلوا من أجل انسانية جديدة وناهضوا العنصرية والهمجية والحرب.
امريكا هي ذات وجهين متناقضين !!!!- انساني ولاإنساني !!!!
1- أمريكا العالم الحر الذي بناه قادة الحرب وتجار العبيد ..
أمريكا هي مجتمع مصنوع حيث لا تاريخ ولا تقاليد مشتركة، مجتمع يجمع بين أخلاط من البشر الأصليين (الهنود الحمر) والمهاجرين الذين تباينت الوانهم ومشاربهم ومعتقداتهم ومهنهم فكان منهم الفلاح الاقطاعي والتاجر المحتكر والعبد المستعبد والعامل المقهور وكان منهم الأرقاء البيض والسود هجروا قسرا الى أمريكا حيث الانسان هناك في البداية سلعة تباع وتشترى دعما للعالم الجديد (الحر الديموقراطي) فتشكلت منهم مقومات أمة وهي طبقات اجتماعية متباينة قاهرة ومقهورة وبني مجتمع جديد بعد حرب الاستقلال (حرب الشمال والجنوب) وخلفت الضحايا بألاف والملايين وبنت مجتمعا اسقط كل القيم والمبادئ والعقائد وامن بأن الحياة صراع للبقاء والفضيلة هي كسب المال بلا أخلاق ويعبر عن هذا بالشخصية الرمزية المعروفة تحت اسم (العام سام) وهو المثل الأعلى المميز لشخصية العالم الجديد المعروفة باسم (اليانكي)
ومن مكر التاريخ أن فلسطين أغتصبت بنفس السيناريو الدموي الأمريكي وتشكل المجتمع الصهيوني الغاصب بنفس سيناريو التركيبة الهجينة الأمريكية وأقيمت دولة الاحتلال بنفس الطريقة الدموية ونفس السياسة الاستعمارية الاستيطانية من مذابح ومجازر وتهجير وقتل للسكان الأصليين الأبرياء وجاءت الحركة الصهيونية مبشرة بفكرة أنهم (شعب الله المختار) اختارتهم العناية الإلهية دون غيرهم ليعودوا الى (أرض الميعاد) فأسسوا ما يسمى بدولة “اسرائيل” عبر سياسة تقتيل السكان الأصليين او تهجيرهم خارج أرض فلسطين والاستحواذ على اراضيهم وتسليمها للمهاجرين اليهود الذين هجروا اليها ترغيبا وترهيبا من جميع أصقاع الكرة الأرضية فصنعت دويلة الاحتلال على أنقاض جثث السكان الأصليين بدعم ومشاركة من القوى الاستعمارية والامبريالية العالمية.
2- امريكا بين الفكر الانساني والعقل الامبريالي !!
كانت أمريكا مع بداية نشوئها الجنيني مجال صراع بين فلسفتين متعارضتين تتنافسان من أجل السيادة في أمريكا وهما:
– الأولى هي الفلسفة الإنسانية او فلسفة التنوير الفرنسية القائمة على تصور الكمال الإنساني وتستهدف بناء نظام ديموقراطي عادل تسوده المساواة وتكون الدولة فيه خادمة للجميع تستمد سلطتها العادلة من ثقة الناخبين وتدعم المساواة بين المواطنين الأمريكيين اصليين ومهاجرين وخير تعبير عنها جاء على لسان جيفرسون وكانت هذه الفلسفة تهدف التصدي لخطر الرأسمالية الصناعية.
– والثانية هي فلسفة حرية العمل المستمدة من الفكر الانجليزي وتقوم على مبدأ شمول غريزة الاكتساب وان النظام الاجتماعي هدفه تلبية حاجات “انسان اقتصادي” مجرد وأن الدولة خادمة للتجارة والشركات الكبرى وابرز المعبرين عنها الكسندر هاملتون وهدفها هو التوسع والسيطرة واقامة امبراطورية أمريكية يسيطر فيها الرأسمال الامريكي على الشركات العالمية متعددة الجنسية.
ولقد انتصرت فلسفة حرية العمل بوجهها الرأسمالي البشع على حساب الأخلاق والقيم الإنسانية، يقول هاملتون (النجاح لا يعرف الأخلاق ) وطبيعي أن هذا الصراع الفكري كان تعبيرا عن صراع اجتماعي وسياسي بين النظام الاقتصادي- الزراعي- الاقطاعي- العبودي السائد في الجنوب الامريكي والنظام الاقتصادي التجاري والصناعي الجديد في الشمال والتواق الى اليد العاملة والتي وجدها رخيصة في صفوف الزنوج (الأفرو- امريكيون) والشيكانو (المكسيكيون- الامريكيون) والبورتوريكيون…
وكان الصراع على الثروة والسلطة هي التي اطاحت بفلسفات وأفكار بيفرسون ولنكولن وكالمون.. وتفوقت فلسفة هاملتون التي رفعت شعار حرية الرأسمال والمغامرة فولد العملاق الاحتكاري الأمريكي مع رجال أعمال جشعون ومفترسون قضوا على كل ما هو أنساني وأخلاقي لتسود فلسفة القوة والعنهجية والعدوانية والوحشية وأخلاق الاحتيال والربح والأنانية حتى أصبح الكسب يتحقق عن طريق النهب (جون روكفلر).
3- الأعمال الادبية الأمريكية بين تمجيد الثورة والهرولة نحو الثروة.
أمريكا لم تكن – فقط – ذلك العقل الاقتصادي الإمبريالي الذي يفكر من أجل الثروة والسلطة والتوسع بل ان الأدب والفن الأمريكيين واكبا أطماع البورجوازية الأمريكية الصاعدة وأحلامها في التوسع والنهب والاحتكار وهذا هيرمان ملفيل Herman Melville مؤلف “موبي ديك” أول كتاب في العولمة وكان شاعرا وروائيا أمريكيا كتب وقال (نحن رواد العالم اختارنا الرب، والانسانية تتطلع الى سلالتنا ونحن نشعر في مكنون أنفسنا بالقدرة على فعل الكثير، لقد بات لزاما على أكثر الأمم ان تحتل المؤخرة .. لأننا نحن الطليعة !!) لم تكن هذه الكلمات حلم شاعر بل هي تعبير عن واقع وأطماع الوحش الأمريكي وهو نفس ما عبر عنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في أطماع الولايات المتحدة لبسط قوتها ونفودها على القارة الأمريكية كلها (أمريكا للأمريكيين) لكن هناك من الأدباء والفنانين الأمريكيين من عارضوا الرأسمال الاحتكاري وعارضوا الحرب وحاربوا العنصرية ونبذوا الإرهاب وفضحوا المكارتية وانحازوا لصف الأنسان والحرية والعدالة من قبيل الأعمال الادبية (ادوارد بيلامي Edward Bellamy) الذي يدعوا في رواياته الى تحقيق مجتمع خال من العلل الاجتماعية ومنددا بالرأسمالية المتوحشة وداعيا الى مبدأ التعاون والحياة الجماعية وكذلك الأديب والشاعر (والت ويتمانWalt Whitman) خليفة (توم بين Thom Paine) ووريث فكره الثوري بطل الحرية وصديق البروليتاريا وكان من أبرز فلاسفة عصر التنوير في الولايات المتحدة الأمريكية وكان لفكره ونضاله دورا بارزا في انتشار حركة الإضرابات والانتفاضات العمالية والفلاحية وقيام أزمات اقتصادية حادة أدخلت الفزع الى قلوب ومصالح البورجوازية الحاكمة بل وتنبأت الصحف الامريكية آنذاك عن قرب حدوث (كومونة باريس) في صيغة امريكية. وقد سبق (توم بين) كارل ماركس في فكرة فائض القيمة وأثره في تراكم الرأسمال كما وقف مع العمال ضد رجال الاعمال وأثار بأفكاره الفزع في نفوس البورجوازية في أمريكا وانجلترا حتى أن سادة البورجوازية سنوا بدعة اجتماعية هي أن يضعوا في نعال أحذيتهم مسامير مكتوب عليها حرفي (ت – ب ) وهو ما يعني انهم يدوسون بالنعال على مبادئ (توم بين).
ولقد دخل الأدب الأمريكي حلبة الصراع الطبقي وانتشرت العديد من الأعمال الأدبية ذات الصبغة الثورية الطوباوية والفلسفة الاشتراكية ووجدت الطبقة العاملة من يعبر عن نظرتها ونضالها من اجل امريكا جديدة تسودها الحرية والعدالة للجميع.
4- امريكا دولة مقر للأمم المتحدة لكنها مقوضة للسلم والنظام العالميين
الولايات المتحدة هي عضو مؤسس في الأمم المتحدة وتلعب دورا مهما في جميع النزاعات والقضايا الدولية كما أنها دولة مقر وتستضيف كل اجتماعات الامم المتحدة وتساهم بشكل كبير في ميزانيتها وفي نفس الأن هي عضو دائم في مجلس الأمن وأحد الأجهزة الرئيسية في الأمم المتحدة وهي الراعي الأكبر لهذا النظام الدولي الجديد لكنها تشتغل بمعايير مزدوجة في مواقفها وقراراتها وتحركاتها بل وتتخذ مواقف تتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة.
ومن ازدواجية قراراتها ومواقفها المتعارضة مع مبادئ الأمم المتحدة :
- استخدام حق النقض في مجلس الأمن بشكل متكرر وفي قضايا انسانية عادلة وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء.
- الانسحاب من المنظمات التابعة للأمم المتحدة مثل مجلس حقوق الأنسان بسبب انتقادات وجهتها هذه المنظمات لسياسات الولايات المتحدة وخصوصا منها سياستها المرتبطة بفصل الأطفال المهاجرين غير الشرعيين عن ذويهم عند الحدود مع المكسيك او رفضها انتقادات مجلس حقوق الأنسان لممارسات اسرائيل القمعية والاستيطانية في الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة.
- انسحاب الولايات المتحدة او التهديد بالانسحاب من منظمات أممية كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) او الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ وخفض مساهماتها في موازنة الأمم المتحدة…
- ازدواجية التعامل مع القضايا الدولية حيث تتهم الولايات المتحدة الامريكية بازدواجية المعايير في تعاملها مع قضايا حقوق الانسان والصراعات الدولية ولقد تدخلت في بعض الحالات لفرض السلم والحوار (البوسنة مثلا ) لكنها في نفس الان تغاضت عن انتهاكات اخرى مثل ما يحصل في الأراضي الفلسطينية من مجازر ومذابح وتجويع وتهجير وتستخدم الولايات المتحدة حق النقض ضد كل مشاريع قرارات تدين اسرائيل حتى أن قائمة النقض التي مارستها الولايات المتحدة فاقت الثمانين نقضا (فيتو) أمريكيا لمشروعات قرارات تناولت جوانب متعددة من الممارسات الوحشية والقمعية الاسرائيلية الخارجة عن قواعد القانون الدولي والحجة الامريكية كانت دائما واحدة ( ان المشروعات المقدمة ليست محايدة ومنحازة ضد اسرائيل).
هذه المواقف المزدوجة للولايات المتحدة تساهم في تقويض النظام الدولي وتهميش الأمم المتحدة واضعاف كل المؤسسات الدولية والمواثيق العالمية القائمة على القانون كما أن هذه الازدواجية تساهم في فقدان الثقة في قدرة الأمم المتحدة على تحقيق اهدافها.
ان المارد الامريكي لم يتراجع في سياساته و مؤامراته ودسائسه وجبروته ومكارتيته بل بقي ملتزما بما هدته اليه فلسفته الحربية وفكره الإمبريالي الذي يعلمه أن المال لا يعرف الأخلاق والأمانة وأن القوة تصنع الحق والغاية تبرر الوسيلة وامريكا هي العالم الحر وموطن الحضارة.
وعود على بدء واليوم مثل الأمس فان قتل الهنود الحمر وقتل ابطال فتنام والعراق وافغانستان هو في نظر الامريكان خير وواجب لان هذه هي مصلحته واليوم مثل الامس فهل الغد سيكون كذلك ؟
انها أمريكا ذات الوجهين: وجه القوة والتوسع والأمركة والنفود والجشع اللاإنساني (نهاية الانسان) … ولها وجه اخر هو انها مركز التكنولوجيا الحديثة والذكاء العلمي والاختراعات في شتى ميادين الحياة لرفاهية الانسان … !!!!
ذ. محمد بادرة