بقلم: محمد مكاوي (باحث في اضطرابات النمو العصبي)
هام: هذه المقالة ليست إملاء من أي جهة، وليست موجهة ضد أي شخص أو جهة
تقوم مجموعة من جمعيات المجتمع المدني حاليا في المغرب بتنظيم حملات كشف صعوبات التعلم داخل المدارس العمومية والخاصة، بأدوات تفتقد إلى المعايير العلمية والمنهجية المُوصى باعتمادها. وتشارك في هذه القافلات، في الغالب، فرقٌ من الأطباء والأخصائيّين والتربويين، تحت إشراف جمعيات المجتمع المدني، التي تشتغل، بدورها، غالباً، في حقل اضطرابات النمو العصبي. وقد تنظَّم هذه الحملات في إطار شراكات مع جهات مؤسساتية ورسمية، محلية كانت أو جهوية أو وطنية. ولكن اللافت للانتباه أنه تغيب، لدى كل هذه القافلات، الموجهة خصّيصا لكشف صعوبات التعلم داخل المدارس، أدواتُ كشف مقنّنة ومضبوطة علميا؛ للاعتبارات الآتية :
– عدم دقة ترجمات الاختبارات النفسية الفرنكفونية أو الأنجلوساكسونية في مجال صعوبات التعلم؛ مما ينعكس سلبا على تطبيقها على الأطفال المغاربة في كل المدارس، ناهيك عن الأخطاء المنهجية المرتبطة بالتمرير، وبعدم احترام حقوق الملكية الفكرية في حال اعتمادها كاملة.
– عدم صحة اختزال بعض عناصر الاختبارات، الموجهة لكشف صعوبات التعلم عند الأطفال، في مجالات محددة، دون غيرها.
– اتسام الطفل المغربي بتعدد لغات التعلم: العربية والفرنسية والأمازيغية، مع ما يرافق ذلك من صعوبات مرتبطة بالمنهاج الدراسي والفروقات الفردية الطبيعية بين المتعلمين، ناهيك عن الظروف الاجتماعية والتربوية والبيداغوجية، والفوارق المجالية بين الأطفال ذوي صعوبات التعلم. هذا، بالإضافة إلى مشكلات أخرى مرتبطة بطبيعة التعاريف المقدَّمة، وبالمقاربات التي قد لا يسَعُ المجال لعرْضها، وبالمستجدات العلمية المرتبطة باضطرابات النمو العصبي، وما يصاحبها من إلزامية تحيين وتدقيق وتقنين أدوات الرصد والكشف والتشخيص، ولاسيما تلك الموجّهة إلى الأطفال في سنّ التمدرس .
– احتمال عدم الالتزام بأخلاقيات المهن الطبية، المسطرة في المرسوم رقم 225.21.02، الصادر في “الجريدة الرسمية”، وخاصة المادة 38 منه، التي تُحتم على الطبيب أن يُعِدّ تشخيصه بعناية فائقة، وأن يخصّص الوقت الكافي للكُشوف، وأن يستعين – قدْرَ الإمكان – بالطرق العلمية الأكثر ملاءَمة؛ والمادةَ 15 قبلها، الداعية إلى أخذ مزايا وعواقب مختلف سبل التشخيص والعلاج الممكنة في الاعتبار الكامل؛ وكذا المادة 22، التي تؤكد أن كل تعميم، سابق لأوانه، لطريقة تشخيص أو علاج جديدة، وغير مجرَّبة بشكل كاف قبيل تطبيقها، يعدّ عملا غير مقبول من لدن الطبيب، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالفئات الهشّة. كما يجب عليه – حسب المادة 45 – الامتناع عن استعمال تقنيات لم تثبت بعْدُ نجاعتها علميا، وتكون متجاوَزة أو محظورة، وهو ما ينسحب على الأدوات المستعمَلة حاليا في كشف صعوبات التعلم داخل مدارسنا. ويُلزمه القانون كذلك، في المادة 46، بإخبار السلطات الإدارية أو القضائية المختصة في حالة تعرض الشخص المفحوص لأضرار أو لمعاملة سيئة. وتنصّ المادة 75 من المرسوم المذكور على أنه يتعين على الطبيب ألاّ يكلّف مساعِديه، من غير الأطباء، بالقيام بأعمال تدخُّل في نطاق مزاولة مهنة الطب، وألاّ يكلّفهم بأعمال لم يُرَخَّص لهم قانونيا بمزاولتها، أو تتجاوز اختصاصاتهم وصلاحياتهم.
ولعلّ أقل ما يمكن أن يُقال عن تدخُّلات قوافل كشف صعوبات التعلم، التي تعرفها الساحة المدرسية المغربية اليوم، أنها غيرُ محسوبة العواقب، بل يطبعها الكثير من الارتجالية، وتهدد بإمكانية تفريخ صعوبات تعلم أخرى لدى أطفال، قد لا يعانون سوى من فروق في المستويات التعليمية، وسوى من صعوبات مرتبطة بمشكلات اجتماعية أو نفسية أو بِيئية، لا علاقة لأغلبها بصعوبات تعليمية، تستدعي إضفاء الطابع الطبي، وشبه الطبي، عليها.
إن سكوت الجامعيين، والمؤسسات الرسمية، والصِّحافة الوطنية، والجمعيات الحقوقية الرافعة لشعار “التربية الدامجة”، أمام خُروقات قافلات كشف صعوبات التعلم في المدارس، باعتماد أدوات بناء عشوائية؛ لكشف صعوبات التعلم، يقرّبنا أكثر من “نظرية النافذة المكسورة” (Broken window theory)، التي أرسى قواعدَها كلٌّ من جيمس وجورج كيلنج سنةَ 1982م، وترتكز على معطى بسيط، مؤدّاه أن “معظم النار من مستصْغَر الشرر، وأن صغائر الأمور الخاطئة تؤدي إلى جرائم، أيّا كان دافعها. وبالطبع، تأتي كنتيجةٍ حتمية للخَلَل، الذي بدأ بصَمْتٍ، لم يعترض عليه أحد”!
وتعد هذه النظرية امتدادا واستكمالا للتجربة التي قام بها، قبل ذلك، عالمُ الاجتماع الأمريكي فيليب زِمْباردو، سنة 1969م، وتأكيدا لها؛ بحيث عمد هذا الباحثُ إلى ترك أبواب سيارتين مفتوحة، ولوحات أرقامهما مفقودة، في منطقتين مختلفتين داخل ولاية نيويورك؛ إحداهما في حيٍ فقير، والأخرى في حيٍ راق. وبحسب الدراسة، فقد بدأ المارّة في الحي الفقير بتخريب السيارة، وسرقة محتوياتها، خلال بضع دقائق بعد ذلك الترْك، ليتمّ تدميرها بالكامل في غضون ثلاثة أيام.
على حين تطلّب تدمير السيارة في المنطقة الغنية وقتا طويلا؛ مما دفع الباحث إلى كسر إحدى نوافذها؛ فشرع الناس في الكسْر، وسرقة المحتويات. وقد استغرق الأمر وقتا مُماثِلا لذلك المستغرَق، قبلَه، في الحي الفقير؛ من أجل تحويل السيارة بالكامل إلى خُردة.
وبينت النظرية كذلك أن الأشخاص المُخَرِّبين لم يكونوا مُجْرمين، بل إنّ معظمهم من عامة الناس، ومن المواطنين الذين يحترمون القانون. ومع ذلك، فإن النافذة المكسورة، التي تُركت دون تدخل، أوْحَتْ برسالة خفيةٍ، مفادُها أنه “لا أحدَ يهتم بأمرها. وعلى الأرجح، لا توجد عواقب لإتلاف ما تم كسره أصلا”.
لقد قلبت نظرية “النافذة المكسورة” موازين نيويورك، وغيّرت قوانين الإدارة الأمريكية، وكانت وراء فرْض الغرامات والعقوبات الرادعة، وتنظيم حملات التحسيس، الهادفة إلى الحفاظ على المَرافق العمومية من الإتلاف، ومن تمادي بعض الأفراد في الإخلال بالأنظمة، وعدم احترام الملكيات الفردية والجماعية. وهكذا، لُوحِظ – بعد فترة قصيرة من ذلك الحدث – تراجُع معدلات الجريمة، وسوء تقدير العواقب.
إن ما يحدث اليوم في مدارسنا يشبه كرة ثلجٍ، ما تزال في بداية المنحَدَر. وإذا لم يتدخلْ أحدٌ لإيقافها، فإنها ستصل حتماً إلى المنحدر، وبحجم وقوة أكبر، وستحطم كل النوافذ، وآنذاك سيتعذر إصلاحها.. لِنُصْلِح النوافذ قبل تكسُّرها!