كثيرة هي الأحداث الجسام التي تتالى ليل نهار، وترخي بظلالها الكالحة أو حتى شغفها على حياة الناس، وكثيرة هي القنوات والاذاعات والمنصات والمواقع والتطبيقات التي تروج لكثير منها بالحق والباطل حتى تجعل منها قضايا رأي عام جارف وسلوك حاصف. وكثيرون ممن هب ودب يخوضون فيها بالجهل المطبق والظن السيء والاشاعة المغرضة والدعاية المضللة، في غياب وصمت وانعزال بعض الفئات المعنية والمؤهلة أكثر من غيرها من العلماء والخبراء والرؤساء والأساتذة والمدراء ممن يسمون أنفسهم مسؤولين وفاعلين مجتمعيين بمختلف أطيافهم وتخصصاتهم ومواقعهم الرسمية والمدنية.
اليوم مثلا، هناك غلاء الأسعار والتهابها مقابل هشاشة الأسر وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن بسبب شيوع البطالة وتدني الأجور وتجميدها. هناك حرب الهوية والمرجعية والأصالة المغربية ترخي بظلالها على مدونة الأسرة والعلاقات بين الجنسين، الحريات الفردية والقانون الجنائي.. هناك تراخي في أداء بعض المؤسسات وتداخل الصلاحيات وتقاذف المسؤوليات ولا أحد يحسم في المتطلبات والانتظارات، هناك حرب أوكرانيا واسترزاق روسيا على كل فتن المنطقة.. هناك حرب الحريات تطال حتى الصحفيين والصحافيات.. وحرب التطبيع والعلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب.. حرب المحروقات التي لا تهدأ ولا تتراجع.. وحرب القيم والمأكولات.. وحرب التظاهرات والمحاكمات..، والأحزاب والنقابات والجمعيات وكأنها تتفرج على الأوضاع، لا أحد يفعل كثير شيء فبالأحرى أجداه، فأين الفاعل المدني من كل هذا وهو لا تكاد تسمع له اليوم همسا ولا ترى له ركزا، حتى على مستوى الحوارات في القنوات والتدوينات في الصفحات أو التغريدات الحارقة على المنصات والمراسلات الشائعة على التطبيقات؟.
ومما يزيد الطين بلة، أن المواطنين الذين كانوا بالأمس لا يأبهون لشيء، أصبحوا اليوم يحتجون بمختلف الطرق، والذين كانوا يبدون بعض الجلد والمقاومة نفذ صبرهم وقد علا وجوههم سخط عارم على الأوضاع وغضب حانق على المسؤولين، ومما يزيد الطين بلة، أن الأزمة معقدة.. ممتدة.. مزمنة.. مستفحلة.. وليس بمقدور المواطن المتوجع المسكين، لا إدراكها على حقيقتها.. ولا تجاوزها بجهوده الفردية، ولا حلها عبر دواليبها السياسية المقررة ولا المدنية المترافعة، بل إن هذه الدواليب المسؤولة، في الوقت الذي يبدو فيه الكل يتفرج على الكل، فهي أيضا تتفرج ولا تحرك ساكنا، وكأن الأزمة المادية والقيمية اندلعت في جزر “شاكريكنبن”، ولا أحد يحزم في شيء غير المقاربة الأمنية الضيقة، والمعدة سلفا تحسبا لكل طارئ يتجرأ على حوار الشوارع وصراخها أو صواريخها؟.
ولكن، قد يكون للسياسيين وأصحاب القرار ومن لف لفهم.. مبرراتهم وإكراهاتهم، إمكانياتهم وتعليماتهم، أوهامهم ومصالحهم.. التي تسجنهم في دواليب الصمت والعجز، وتصلبهم على متاهات التخبط والتضارب والفوضى والانتظار، لكن، هل ينبغي للفاعل المدني ان يحذو حذوهم وهو الذي جاء ليرشد جبنهم وغطرستهم، وهو الذي طالما اعتز بمنطلقاته المدنية النضالية ورسالته التطوعية التي تدفعه إلى فخر الشهود على العصر ومحاربة آفات التخلف في كل مصر، بكل عزم وحزم وحرية واستقلالية وقيم التطوع والتجرد والسلمية، دون خوف ولا طمع، ولا طموح إلى أية سلطة غير سلطة الكلمة الحرة الصادقة والبيان لكل من يهمه الأمر، مسؤولين ومواطنين، نخب وعاملين، شركاء وفاعلين، لابد أن يتوضح لكل منهم دوره في حصول الأزمة وتعقدها ودوره المقدر في انفراجها، وبالأخص أهمية العمل التكاملي المنظوماتي وإحكام حلقاته في اتجاه حركة دورانية تنموية منتجة وسلسة. وهذه مهمة عظيمة ورسالة جليلة لن يقوم بها الفاعل المدني إلا بقدر ما توفرت فيه بعض الشروط اللازمة ومنها:
اليقظة والمواكبة للشأن العام خاصة في إطار اهتمام المرء ومن زاوية تخصصه على الأقل.
البحث والدراسة في ما يتصدى له من الأزمات المجتمعية وباعتبار رأي الخبراء والمؤهلين.
عمل الفريق المبدع في مؤسسة مدنية وبناء على التفكير داخل المرجعية وخارج الصندوق.
تملك مهارات الترافع الجماعي القوي لدى كل الجهات المعنية، الوطنية منها والدولية.
تملك مهارات التواصل الفعال مع الرأي العام عبر المتاح من الفضاءات والقنوات والمنصات وكافة الوسائل والأشكال التعبيرية، والتي لا ينبغي أن يتجرد أي فاعل مدني من إحداها أو بعضها تقليدية كانت أو حداثية.
ويبقى أن الميديا تخشى الفراغ، إذا لم يملأها الفاعلون المدنيون بمختلف أطيافهم بجديتهم ورساليتهم في مختلف اهتماماتهم السياسية والاقتصادية.. التربوية والاجتماعية.. الفنية والبيئية والتنموية..، ستملأتها “الشيخات” و”المؤثرات” بروتينها اليومي وصلافتها والقول الجريء والفاحش في ثقافة “القاع” وانحرافها وتفاهتها. أو ربما سننتظر قنوات الصرف الصحي وصفحات المكبوتات ومكبرات بعض الشيوخ والمقدمين.. وبعض القياد والباشوات.. وكل من لا يتكلم إلا بالأوامر والتعليمات – ومن حقهم – يوم لا يكون كل همهم أن يتحاشوا الظهور في الصورة المشروخة وتورطهم في مسؤوليتها.. بل ويقاوموا ويمنحوا ويقمعوا كل من يحاول أن يقول أنها صورة مشروخة وأنهم هم من كانوا ولا يزالون في أسها وأساسها، خاصة ضد كل من سولت له نفسه بعد ذلك النزول إلى الشارع فردا أو جماعة، حيا أو مدينة، أو مدن وطن أو أوطان بأكملها، مدعية أنها إنما نزلت إلى الشارع لتحتفي بالربيع الهادر وتصرخ من جديد: “سلمية سلمية.. لا حجرة لا جنوية”.. “حرية كرامة.. عدالة اجتماعية”؟.
الحبيب عكي