اختار عبد الإله بنكيران أن يتحدث هذه المرة بصفته “صوت العقل السياسي” أكثر من كونه زعيم حزب أو رئيس حكومة سابق.
ففي تسجيله الصوتي الذي وجّهه إلى شباب ما يُعرف بـ“جيل زد”، لم يتبنَّ خطاب المواجهة أو التبرير، بل اختار خطاب النصح والتقدير، محاولاً رسم خطٍّ فاصل بين الاحتجاج المشروع والمساس بالثوابت الوطنية.
الرسالة جاءت في توقيت دقيق، قبل أيام من الخطاب الملكي المنتظر أمام البرلمان، وفي سياقٍ يتّسم بتفاعل اجتماعي غير مسبوق على المنصّات الرقمية.
لذا بدا بنكيران واعيًا بأن أي خطأ في التقدير الزمني أو الرمزي قد يُحوِّل الاحتجاجات من “قضية مطالب” إلى “صدام رمزي مع المؤسسة الملكية”، وهو ما حاول التحذير منه بلغة حازمة وهادئة في آن واحد.
بنكيران، بخبرته الطويلة في العمل السياسي، يدرك حساسية العلاقة بين الشارع والملكية في الوعي الجماعي للمغاربة. فحين قال إن “المغاربة يساندون من ينهض ضد الفساد، لكنهم لا يقبلون من يمس الملك أو الملكية”، لم يكن يبرر السلطة، بل كان يُذكّر بحدود الثقافة السياسية للمجتمع المغربي، حيث تُمثّل الملكية “العمود الفقري للتماسك الوطني” أكثر منها مجرد سلطة تنفيذية.
اللافت في الرسالة هو اعترافه الضمني بنضج هذا الجيل، إذ أثنى على لغته الهادئة واحترامه للملك في بياناته الأخيرة، واعتبر ذلك تحولًا إيجابيًا يقطع مع الأسلوب الانفعالي الذي رافق بعض الحركات الاحتجاجية السابقة. هذا الإقرار، في ذاته، يعكس تحوّلًا في موقف بعض النخب السياسية التي بدأت تدرك أن جيل المنصات لم يعد مجرد “مراهقين رقميين”، بل فاعلين اجتماعيين يملكون أدوات التأثير والتعبئة.
لكن الرسالة في عمقها كانت تحمل تحذيرًا سياسيًا مزدوجًا:
الأول، أن الاستمرار في التظاهر خلال الأسبوع الذي يسبق الخطاب الملكي قد يُفهم كنوع من “الضغط على رأس الدولة”، وهو ما قد يُفقد الحركة تعاطف فئات واسعة من المغاربة.
والثاني، أن بعض الأطراف الخارجية قد تستغلّ هذه اللحظة لتشويه صورة المغرب أو زرع الانقسام بين مؤسساته وشبابه.
من الناحية الخطابية، حافظ بنكيران على لغة الأبوة السياسية التي تميّزه، إذ لم يتحدث من موقع السلطة أو الزعامة، بل من موقع الناصح الذي يحترم حماس الشباب ويذكّرهم بحدود اللعبة السياسية الواقعية. وقد حاول المزاوجة بين “الاعتراف بالمشروعية” و“التحذير من التهور”، داعيًا إلى أن تبقى الحركة في حدود مطالبها الثلاث… إقالة الحكومة، إصلاح التعليم والصحة، والإفراج عن المعتقلين.
هذا التوازن بين الإقرار بالمطالب والتحذير من المساس بالرموز يُعيد إنتاج ما يسميه الباحثون في العلوم السياسية بـ“الوساطة الرمزية”، أي الدور الذي يلعبه بعض الفاعلين في تقريب المسافة بين الدولة والمجتمع عندما ترتفع حدة التوتر.
لقد أراد بنكيران أن يقول لجيل زد، بلغة السياسة الهادئة… يمكنكم أن تنتقدوا بشجاعة، لكن لا تخرجوا من البيت الذي يحميكم.
أي أن التغيير الحقيقي لا يمر عبر المواجهة مع النظام، بل عبر إصلاحه من الداخل، بالوعي والمسؤولية والتدرّج.
في زمن تتصاعد فيه الأصوات وتتناقض الروايات، جاءت رسالة بنكيران لتذكّر المغاربة بأن النقد لا يعني القطيعة، وأن الوطنية يمكن أن تكون في الشارع كما في الدولة، إذا ما التقى الصدق بالاحترام، والعقل بالحماس.
التعاليق (0)