حين تُختزل الدبلوماسية في صحن “البيصارة”… أزمة وعي أم عرض مسرحي داخل المؤسسة التشريعية؟

سياسية

عبدالله بن عيسى

يختزل بعض السياسيين، عن قصد أو عن جهل، العمل الدبلوماسي في مظاهره السطحية، كما حدث مؤخرًا عندما صرّح أحد البرلمانيين أنه قدّم «صحن بيصارة» لسفير باراغواي، فصرخ الأخير: «الصحراء مغربية».

 تصريح بسيط في شكله، لكنه عميق في دلالاته، لأنه يعكس أزمة وعي سياسي، وانفصالًا متزايدًا بين من يمثلون الأمة ومن يفهمون كيف تُدار الدولة في بعدها الاستراتيجي.

تبدو الحكاية للوهلة الأولى طريفة، لكنّها تُجسّد مأزقًا حقيقيًا في الخطاب السياسي المغربي، إذ يتحول الفعل البرلماني من نقاشٍ مسؤول إلى مسرحٍ للارتجال الشخصي. فالبرلماني الذي يتعامل مع ملف الصحراء المغربية بوصفه نتيجة وجبة فول، يختزل عقودًا من العمل الدبلوماسي الرصين، الذي يقوم على رؤية ملكية واضحة، وتحرك دبلوماسي متوازن، وتحالفات دولية معقدة، في مشهد أقرب إلى الحكاية الشعبية منه إلى المرافعة الوطنية.

ما يثير القلق ليس التصريح في حد ذاته، بل الذهنية التي أنتجته. إنها ذهنية تستسهل السياسة، وتختزلها في الودّ الشخصي والمبادرات الفردية، متجاهلة أن العمل الدبلوماسي علم قائم على المصالح والتفاوض والقراءة الدقيقة للواقع الدولي. فحين يعلو صوت العفوية على منطق الدولة، يتراجع وزن المؤسسة أمام النزعة الفردية، وتُصاب صورة البرلمان في نظر المواطنين بالاهتزاز.

هذا الانزلاق اللغوي ليس بريئًا؛ إنه يكشف مستوى التكوين السياسي والثقافي لدى بعض المنتخبين الذين يعتبرون الخطاب السياسي وسيلةً للشهرة لا أداةً للتأثير. فحين تغيب اللغة الدقيقة، تُفتح الأبواب أمام التبسيط المُخلّ، وحين يُختزل العمل البرلماني في النكتة، تُقوَّض وظيفة الرقابة والمساءلة. لا يمكن لمؤسسة تشريعية أن تُمارس دورها بجدية ما دام جزء من أعضائها يتعامل مع القضايا الوطنية بعقلية المقاهي لا بلغة السياسات العامة.

الرهان الحقيقي اليوم هو استعادة الهيبة الفكرية للمؤسسة البرلمانية، عبر إعادة الاعتبار للتكوين السياسي، وإلزام الأحزاب بانتقاء مرشحين يمتلكون الحد الأدنى من الوعي المؤسسي والمعرفة بملفات الدولة. كما أن الإعلام يتحمل مسؤوليته في كسر دائرة التهريج، فلا يكتفي بالترويج للمواقف الطريفة، بل يُسلّط الضوء على دلالاتها العميقة في ما يخص تآكل الوعي السياسي وتراجع الكفاءة التمثيلية.

لا يمكن لأي أمة أن تُحقق التقدم في ظل برلمان يتحول إلى مسرح للهزل. الدبلوماسية ليست «بيصارة» تُقدَّم على مائدة الضيوف، بل منظومة من المصالح والرؤى تُصاغ في الكواليس وتُدار بالاحتراف والمسؤولية. وعندما يُختزل هذا المجهود في صحن طعام، فإن الخطر لا يطال الصورة الخارجية للمغرب فحسب، بل يمتد إلى جوهر السياسة نفسها، حيث يصبح الجهل زينةً، والاستعراض وسيلةً للبقاء تحت الضوء.

إن أزمة الوعي السياسي في المغرب ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة تراكمٍ طويل لثقافة انتخابية تفضّل الولاء على الكفاءة، والضحك على المعرفة، والشعبوية على الرصانة. لذلك، فإن إصلاح المشهد يبدأ من هناك.. من الاعتراف بأن المؤسسات لا تُحترم بالشعارات، بل بالمستوى الفكري لمن يجلس تحت قبابها. الدبلوماسية لا تُختصر في صحن البيصارة، والسياسة لا تُدار بالنيات، بل بالعقل والتخطيط والرؤية.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً