هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

يسارنا الماركسي  ضرورة سياسية وثقافية أم طوباوية فكرية منتهية الصلاحية؟

كُتّاب وآراء



شهد العالم العربي مع بداية القرن العشرين ظهور أحزاب يسارية ماركسية واشتراكية وقومية وفي فترات الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي اكتسحت الفلسفة المادية والوضعية المؤسسات الجامعية ووصل مداها الى المؤسسات الحزبية والنقابية والثقافية والشبابية وشمل تأثيرها قاعدة عريضة من المثقفين والجامعيين والشباب والعمال لكن مع تصاعد الأزمات الاقتصادية العالمية وسقوط جدار برلين وزوال الاتحاد السوفياتي وفي المقابل هيمنة النظام الاقتصادي الليبيرالي العالمي الجديد المندمج في الدورة الرأسمالية العالمية من موقع التخلف والفقر والضعف في دولنا ومجتمعاتنا عجزت الأحزاب الماركسية وكل التيارات اليسارية من توجيه الصراع لصالحها أو لصالح الفئات المضطهدة اجتماعيا وطبقيا مما دفع الكثير الى القول أننا نودع هذه الأحزاب الماركسية والشيوعية الى متواها التاريخي الأخير…

وفي عالمنا العربي لم تتمكن الأحزاب الماركسية من صنع نجاحها ولا من تقديم اسهامات متميزة في حقل انتاج وإعادة انتاج الماركسية بصورة مستقلة بعيدة عن التصورات البيروقراطية والسلوكات الاستبدادية (الستالينية) ومن أسباب فشل أو قصور الأحزاب الماركسية العربية في ابداع فكر سياسي وتنظيمي ماركسي عربي  بديل :

1- ضعف وهشاشة الحامل الاجتماعي للأحزاب الماركسية العربية(البروليتاريا الصناعية) بسبب ضعف قطاع التصنيع ومحدودية عدد العاملين في القطاع الصناعي وتدني مستوى وعي الطبقة العاملة. كما أن اعتماد هذه الأحزاب – نظريا- على قوة العمال (البروليتاريا العمالية) أيا كان تفسيرها غير صالحة لأنها ببساطة تعالج مشكلة الحياة السياسية من منطق غير سياسي وكأن هذه الأحزاب تقسم الشعب تبعا للعمل وليس تبعا للاتجاه السياسي. انهم يقسمون الشعب الى فلاحين وعمال وأجراء ومثقفين ورأسماليين واقطاع … ومن فساد “نظرية” التقسيم هذه أن العمال ليسوا ذوي اتجاه سياسي واحد فكيف يمكن تدجينهم جميعا في تنظيم سياسي واحد وما يقال عن العمال يقال عن غيرهم.. وهذا ما يعكس غياب التفكير العلمي وتغليب المقولات النظرية على الواقع.

2- واقع التخلف الفكري في المجتمع العربي المرتبط أصلا بالمستوى المتخلف للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهذا التخلف السياسي يتجلى أساسا في عجز هذه الأحزاب عن بناء وعي جديد يرتبط بحركة التاريخ ويعمل في ضوء العقلانية العلمية وليس الايمان بالفكر “التبشيري” الماركسي هكذا دون انتقاد أو تقييم نقدي أما التخلف الاقتصادي فيتجلى في كون اقتصادنا اقتصادا متأخرا مندلقا وتابعا للاقتصاد الراسمالي.

3- ظروف القمع والاضطهاد الذي تعرضت له الأحزاب الماركسية والشيوعية في سائر البلدان العربية اضافة الى النبذ العقائدي والاجتماعي الذي استهدف الماركسيين وساهم في عزلتهم بعد ان وجهوا سهام نقدهم للدين وللشرائع الدينية.

4- الفكر الماركسي انتقل الينا من أوربا وبذلك فان الماركسية لم تكن نتاجا ولا جزءا من منظومتنا الفكرية العربية والاسلامية اسوة بالليبيرالية التي انتقلت الينا هي الأخرى من أوربا بل وحتى الفكر القومي انتقل الينا من أوربا ولكنها كأفكار وكاتجاهات انسانية كبرى احتلت موقعها في المنظومة الفكرية العربية.

5- فشل الأحزاب الماركسية العربية ناجم من ابتعادها عن الواقع المركب للمجتمعات العربية و”ايمانها المطلق” بالفلسفة الماركسية وكأنها العصا السحرية التي ستحل جميع مشكلات الأمة والوطن والمجتمع مما جعلها تتلقى سيلا من الانتقادات الحادة بانغلاقها وسقوطها في غياهب الطوباوية والأحلام الوردية ومن بين الشهادات التي يمكن الاستئناس بها في هذا السياق :

الدكتور صفوت حاتم الذي أقر في كتاباته أن قوى الثورة واليسار الماركسي في منطقتنا العربية باتت تعاني من أزمة تنظيمية وجماهيرية خانقة وحمل الكاتب هذه الأحزاب الماركسية مسؤولية كل الأزمات مؤكدا أنه (لا يفيد في هذا المجال التهرب أو التنصل من مسؤولية الاعتراف بالهزيمة والفشل أو القاء تبعات الفشل على مشجب “ضخامة قوة الخصم” أو “واقع القمع والاضطهاد” أو ” صدمة العولمة والمتغيرات الدولية “) وفي رأيه وان تعددت أسباب هذا الفشل فثمة سبب رئيسي واحد تتفق عليه معظم القراءات والدراسات السياسية التي فككت واقع الأحزاب اليسارية ألا وهو غياب الآليات الديموقراطية في العمل التنظيمي داخل هذه الأحزاب. 

كما أورد الكاتب العديد من المقولات الماركسية التي تستعمل في الخطاب السياسي ومن أبرزها مقولة (البروليتاريا وقيادتها للمجتمع) وهو ما يعكس غيابا للتفكير العلمي وتغليبا للمقولات النظرية على الواقع وتجاهلا لحقيقة التكوين الاجتماعي والطبقي في مجتمعاتنا العربية .

مطاع صفدي الذي قال أن اليسار في العالم العربي ولد مهزوما منذ البداية لأنه حاول ان يجمع في الواقع خطوطا كانت متعارضة ايديولوجيا ومنها الخط القومي  والخط الاشتراكي والخط الماركسي وهذا التناقض الايديولوجي داخل اليسار العربي هو الذي حكم عليه بالفشل “كشركة سياسية”

عادل حسين وهو من المشككين في وجود أحزاب يسارية عربية بل وتحفظ حتى من مصطلح اليمين لأن هذين المصطلحين هما من المصطلحات التي استعرناها من الأدبيات الفكرية والممارسات السياسية الغربية وحاولنا أن نستخدمها في سياقنا الخاص الذي هو سياق مختلف.

محمود أمين العالم يعتقد أن الأزمة ليست أزمة الأحزاب الماركسية وانما هي أزمة اليمين الذي فقد مصداقيته النظرية والعملية وأكد ان اليسار لا يعاني من أزمة “نظرية” وانما أزمته هي أزمة “تنظيمية” تتمثل في تفكك اليسار بين القومي والاشتراكي والماركسي .. انها ازمة تشرذم العائلة اليسارية المنبثقة من الفكر الماركسي.

وفي المغرب كان اليسار الماركسي قد انبثق من الحزب الشيوعي الفرنسي تم تشكل “مغربيا” من تيارات ومنظمات أهمها منظمة 23 مارس ومنظمة الى الأمام المنبثقتان من الحزب الشيوعي المغربي (حزب التحرر والاشتراكية ثم حزب التقدم والاشتراكية اليوم) وكان من أبرز قادة هذه التنظيمات اليسارية الماركسية أبراهام السرفاتي وعبد الفتاح الفاكهاني وعبد الله المنصوري وعلي يعته والشاعر عبد اللطيف اللعبي.. وفي السنوات الأخيرة تم تأسيس حزب النهج الديموقراطي سنة 1995 وهو يحمل الآن اسم النهج الديموقراطي العمالي وكان الأساس الفلسفي والايديولوجي لمشروعهم السياسي هي المادية الجدلية والمادية التاريخية مع اتباع اسلوب النهج الثوري والغاء البعد الديني في ثقافتهم السياسية.. وهم يؤسسون لخطاب يساري طوباوي فشل في الوصول الى الجماهير العريضة من الشعب لأنه اصلا حصر الشعب في النخبة المثقفة في الجامعات (الطلبة) وفي العمال (النقابات) وفي الناشطين الحقوقيين(جمعيات حقوق الانسان). 

هذا التيار وغيره من التيارات والتنظيمات اليسارية تمارس الفعل الحزبي والنقابي والحقوقي كخطاب احتجاجي وليس كفكر ماركسي يسعى الى ادخال تغيير جدري على علاقات البنية الاجتماعية وازاحة عوائق التقدم من وجه حركة المجتمع وتحقيق أكبر قدر ممكن من التكيف والملاءمة لإرساء قواعد الاطار الحضاري المنشود.
اليسار الماركسي المغربي على حد قول محمد طلابي قائم على القول لا على الفعل وقائم على الطوباوية والفراغ الفكري لا على حقائق الواقع والتاريخ وتخترقه الثقافة الميكيافيلية وهذا ما أفقد اليسار الماركسي المغربي ثقة الغالبية من العامة وحتى من النخبة .

– سعي اليسار الماركسي المغربي لاستنساخ تجربة اليسار في الغرب حيث هناك  في الغرب تتركز التطورات حول العلاقة بين الرأسمال والعمل ومن تم فاليسار الماركسي في الغرب يستند بشكل أساسي الى الطبقة العاملة ومنظماتها أما بالنسبة لمجتمعنا فنعيش في سياق مختلف، والتغيرات في مجتمعنا لا تتركز حول العلاقة بين الرأسمال والعمل – وان كان ذلك حاضرا بشكل جزئي – انما الصراع هو مع التبعية والاقطاع والقوى الفاسدة، ولذلك تختلف ألوان وبرامج يسارنا عن اليسار في الغرب بل ان أغلب يساريينا تلونوا بتلاوين الحركات القومية حتى أن منهم من تلون بتلاوين الحركات والأحزاب الاسلامية ومتحالفين معهم في عدد من القضايا والجبهات ومنها القضايا القومية ولذا لا ينطبق عليهم مفهوم اليسار الماركسي كما هو في الأدبيات الفلسفية الغربية.


احزابنا اليسارية الماركسية تتهم بالعلمانية الالحادية فتنافرت منها غالبية أفراد المجتمع حيث الخطاب الايديولوجي الماركسي في أدبياته يناهض الأصولية الدينية باعتبارها ايديولوجية “رجعية” لكن هذه الأحزاب والتيارات وبحكم التنشئة والتكوين الثقافي بدلت الايديولوجية بأيديولوجية أخرى “عدمية” لافتقارها الى القدرة على نقد الذات وانقطاع صلتها بأرضية المجتمع وثقافته الدينية والحضارية ومختلف أوجه النشاط والفعالية الاجتماعية ولذلك يمكن نعت ايديولوجيتها حسب تعريف لوكاتش بانها (وعي زائف). انهم حفظة النصوص والشعارات يسعون الى تفصيل الواقع المجتمعي على أساس النصوص والمفاهيم الماركسية دون ادراك خصوصية المجتمع.

تزايد وتوالد الانشقاقات داخل أحزاب الأسرة اليسارية مما يبين أن النسيج الحزبي اليساري لا نتيجة له سوى توسيع الهوة بين المواطنين. وهذه الأحزاب كلما تكاثرت كلما قل تأطيرها للمواطنين وقل حتى معرفة المواطنين بها، ولقد بدأت الانشقاقات في الأسرة اليسارية من الحزب الشيوعي الى حزب التحرر والاشتراكية الى حزب التقدم والاشتراكية، وفي صفوف التيارات الماركسية اللينينية (- 23 مارس– الى الامام – النهج الديموقراطي) .. وفي الأحزاب اليسارية الاشتراكية الاصلاحية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية– الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية – المؤتمر الوطني الاتحادي – الحزب الاشتراكي…) هذه الانشقاقات داخل الأحزاب اليسارية الاصلاحية والثورية تظهر أن الذين تسببوا في الانشقاقات هم الذين كانوا اكثر تبعية للفكر الماركسي وكأن الثقافة اليسارية الماركسية هي ثقافة انشقاق واقصاء الآخر واخلاء الساحة من كل الافكار المعارضة مما كان عامل ضعف اليسار أكثر منه عامل القوة.

عجز الحركات اليسارية الماركسية من توجيه الصراع لصالحها وتحالفها مع القوى الاصلاحية والاشتراكية بل منها من تحالف مع أحزاب وتيارات ليبيرالية ودينية وقومية في جبهات عدة ومنها جبهة الدفاع عن القضايا القومية (القضية الفلسطينية) كما تحالفت مع منظمات وتنسيقيات احتجاجية ونقابية للدفاع عن قضايا نقابية (فئوية) فهل هي وقفة نقدية تستهدف الوصول الى مراجعة نقدية واعادة صياغة الفكر والبرامج والخطط حيث يجب التخلي عن المواقف السابقة ذي الملامح الثورية ؟؟؟

ان الماركسية هي أشبه بيوتوبيا حالمة تدعو للمساواة والعدل الاجتماعي في مواجهة الرأسمالية وشرورها في النهب والظلم الاجتماعي، ونظرا لطبيعة تناقضات الرأسمالية والصراع الطبقي فانه لا يمكن القضاء عليها بجرة قلم كما يقول فرانسيس فوكو ياما ولذا جاءت الماركسية “الماركة الجديدة” لتحمل بذور اعادة طرح الاشتراكية كنظام اجتماعي بديل أكثر ديموقراطية وأكثر عدلا ومتخلية عن ديكتاتورية البروليتاريا.

كان للماركسية كفكر وفلسفة دورا كبيرا في الاشعاع الثقافي اليساري في مغرب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ومن خلال عدد من المجلات، منها الآفاق – الثقافة الجديدة – البديل … وساهمت في توهج اليسار الثقافي والسياسي مما يبين أن انتاج المعرفة كان تقليدا يساريا بامتياز. والماركسية هي عالم الفكر وطريقة ومنهجية في التحليل، تعلم كيف يتشبع الباحث بالمنهجية العلمية في التحليل والبحث لكن وزنها السياسي المؤسساتي يسير نحو منحدر لا ينفك يتهاوى نزولا وما صمد من تياراتها فقد باتت ترى مهمتها في الحفاظ على وجودها البيولوجي لا الوجود السياسي الفاعل وكأن المسالة لديهم هي فقط وجود التنظيم لا الدور الذي يجب القيام به باستهداف التقدم الاجتماعي وتحقيق التنمية والديموقراطية.

آن الأوان لهذه الأحزاب الماركسية أن تتحلى بديموقراطية التعدد وتتخلى عن ديموقراطية المنابر والا انتهت صلاحيتها وآن الأوان لدفن ايديولوجيتها وتنظيماتها !!

ذ. محمد بادرة

التعاليق (0)

اترك تعليقاً