بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
يبدو أن عجلة التاريخ قررت أن تدور هذه المرة في الاتجاه المعاكس. فبعد أكثر من نصف قرن من محاولات الجزائر إضعاف وحدة المغرب الترابية ودعمها الصريح للحركات الانفصالية في صحرائه، ها هي اليوم تجد نفسها في مواجهة مشهد مشابه وربما أكثر تعقيداً ، مع تصاعد موجة المطالبة بالاستقلال في منطقة القبائل، شمال البلاد.
وكأنّ (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها)، أو كما يقول المثل: (من أشعل النار في بيت غيره، احترق داره بشرارتها).
فقد صوّت المؤتمر الاستثنائي لحركة تقرير مصير منطقة القبائل “ماك”، المنعقد يوم الأحد بباريس، بالإجماع على القرار الذي تقدّمت به الحكومة القبائلية في المنفى “أنافاد”، والمتعلق بإعلان استقلال المنطقة. ومن المنتظر أن يُعلن رسمياً عن هذا الاستقلال يوم 14 دجنبر 2025 في خطوة تاريخية تُنذر بزلزال سياسي في الجزائر والمنطقة برمّتها.
وها هو القدر يقول كلمته، (كما تدين تُدان)، و(من أراد شراً بجاره، نزل الشرّ في داره).
- من “إيشيريدين” إلى “الحرية”
أكد فرحات مهني، زعيم حركة “ماك” ورئيس الحكومة المؤقتة في المنفى، أن لحظة الإعلان المرتقبة تحمل رمزية قوية، إذ اختير توقيت الساعة 18:57 تذكيراً بمعركة “إيشيريدين” سنة 1857، حين فقدت القبائل سيادتها أمام فرنسا. واليوم، يقول مهني، “آن الأوان لاستعادتها بعد قرن ونصف من التهميش والاضطهاد”.
مهني شدد على أن “كل محاولات النظام العسكري الجزائري لتصوير القبائل كجزء من وحدة وطنية صمّاء، لم تعد تقنع أحداً”، مضيفاً أن “القبائل عازمة على نيل حريتها، وأن كل قمع جديد يزيد النار اشتعالاً”.
وكأنّ حاله يقول: (الحديد لا يلين إلا بالنار).
- الجزائر في مواجهة مرآتها
في الوقت الذي كانت الجزائر تُصرّ لعقود على الدفاع عن ما تسميه “حق الشعوب في تقرير المصير” عندما يتعلق الأمر بالصحراء المغربية، تجد نفسها اليوم في موقع من يناقض أطروحاته. فالقضية القبائلية تضع النظام الجزائري أمام اختبار واقعي: هل سيقبل بالمبدأ نفسه الذي ظلّ يرفعه ضد جيرانه؟
المفارقة لافتة: الجزائر التي نصّبت نفسها حامية لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، تواجه الآن أول اختبار داخلي لهذا الشعار، وقد بدأت ملامح الارتباك تظهر في إعلامها الرسمي الذي اكتفى بتجاهل الخبر، في محاولة لاحتواء صدمة الداخل.
حقاً، (انقلب السحر على الساحر) .
- المغرب… من موقع المتهم إلى موقع المتفرج
منذ بداية الألفية، اتهمت الجزائر المملكة المغربية بالتدخل في “شؤونها الداخلية” بسبب تعاطف بعض الأصوات المغربية مع قضية القبائل. واليوم، بعد التصويت التاريخي لـ“ماك”، لم يعد المغرب مضطراً للرد أو التبرير. فالتاريخ، كما يقول المثل، (الأيام دُوَل): من زرع بذور الانفصال في صحراء جاره، ها هو يحصدها في جباله .
عدد من الفعاليات المدنية والسياسية المغربية عبّرت عن تفهّمها لما يحدث، معتبرة أن “استقلال القبائل شأن داخلي جزائري خالص”، لكنها لم تُخفِ في الوقت ذاته أن “العدالة التاريخية تتحقق اليوم، بعد خمسين سنة من التآمر الجزائري على وحدة المغرب الترابية”.
وكأنّ الأقدار تقول: (من عاب غيره بعيب، ابتلاه الله بمثله).
- ملف مفتوح على المجهول
القضية القبائلية لا تبدو حدثاً عابراً. فتصويت بالإجماع من هياكل “ماك” وتحديد موعد رسمي لإعلان الاستقلال يشير إلى مرحلة جديدة في تاريخ الجزائر الحديث. مرحلة قد تُغيّر خريطة التوازنات الإقليمية في شمال إفريقيا، خصوصاً في ظل احتقان اجتماعي واقتصادي داخلي، وعزلة سياسية متزايدة للنظام العسكري الحاكم في الجزائر.
ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستقبل الجزائر أخيراً بتجرّع الكأس ذاته الذي سقت به المغرب نصف قرن؟
فـ (من ذاق مرارة الظلم، علم قيمة العدل حين يدور الزمان).
التاريخ يميل إلى الإنصاف، حتى وإن تأخر قليلاً…