خارج الحدود

هل أعلنت فرنسا “تجارب تعبئة” للحرب؟ ما بين تعليمة صحية احترازية وتمارين روتينية… هذه هي الحقيقة

شهدت الأيام الماضية تداولًا واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعي لخبر مثير للجدل يفيد بأن فرنسا أعلنت عن “تجارب تعبئة عامة” استعدادًا للحرب.

وانتشرت العبارات والصور المصاحبة للخبر بشكل يوحي بأن الحكومة الفرنسية اتخذت بالفعل قرارًا يخص تجنيد السكان أو تعبئة موارد الدولة تحضيرًا لنزاع عسكري وشيك. مثل هذه الأخبار التي تلامس الحس الأمني والعسكري عادة ما تلقى صدى واسعًا بين الجمهور، خصوصًا في سياق التوترات الدولية الحالية. لكن مراجعة المصادر الفرنسية الرسمية والمواقع الإخبارية الموثوقة تكشف أن الأمر لا يعدو أن يكون تحويرًا للوقائع، وأن الحديث عن “تجارب تعبئة عامة” مبالغ فيه ولا يستند إلى أي قرار رسمي.

البداية تعود إلى 18 يوليوز 2025، حين بعثت وزارة الصحة الفرنسية تعليمة داخلية إلى مختلف مؤسساتها الصحية دعتها فيها إلى الاستعداد لاحتمال استقبال أعداد كبيرة من الجرحى في حالة حدوث “انخراط واسع” في نزاع مسلح بحلول مارس 2026. قناة Euronews التي اطلعت على الوثيقة نشرت تقريرًا أكدت فيه أن التعليمة لم تكن إعلانًا عن تعبئة عامة، بل مجرد خطوة وقائية في إطار التعاون بين وزارة الصحة ووزارة الدفاع.

الهدف من هذه الخطوة هو رفع جاهزية المنظومة الصحية تحسبًا لسيناريوهات قصوى يمكن أن تفرضها الأوضاع الدولية أو الإقليمية. وزارة الصحة نفسها وصفت الإجراء بأنه “وقائي وروتيني”، أي أنه يدخل في نطاق التخطيط الاستباقي وليس إعلانًا عن حرب أو بداية تجنيد مدني.

الجدل تضاعف بعد تداول التصريحات الإعلامية لوزيرة الصحة كاثرين فوتران. الوزيرة خصّت قناة BFMTV ومجموعة RMC بحوار أوضحت فيه أن التعليمة مرتبطة بمبدأ “الاستباق” أو “anticipation”، وأن المطلوب من السلطات الصحية هو أن تكون مستعدة كما كانت خلال جائحة كوفيد أو أثناء الكوارث الطبيعية التي سبق أن واجهتها البلاد.

وشددت على أن الحديث عن “تعبئة عامة” أو عن حرب وشيكة أمر لا أساس له من الصحة، بل إن الحكومة لا تفكر في تجنيد المدنيين وإنما في تجهيز البنية الصحية والإدارية للتعامل مع أي أزمة كبرى قد تحدث فجأة. هذه التوضيحات لم تلق نفس الصدى على شبكات التواصل، حيث فضل الكثيرون التركيز على عبارة “نقص أعداد الأسرة الطبية” أو “استقبال الجرحى” وربطها مباشرة بسيناريو حرب.

ما يعزز الصورة الخاطئة أن فرنسا فعلًا دأبت على إجراء سلسلة من التمارين العسكرية والمدنية بشكل دوري كل عام. وزارة الجيوش الفرنسية (Ministère des Armées) تنظم منذ سنوات تمرينًا واسعًا في مجال الأمن السيبراني تحت اسم DEFNET، والنسخة الأخيرة منه أجريت سنة 2025 واختبرت قدرات الدفاع الإلكتروني في مواجهة هجمات سيبرانية واسعة. هذه التمارين معلنة للرأي العام، ويشارك فيها الجيش وأجهزة الدولة وعدد من الفاعلين المدنيين، وهي لا تعني بأي شكل وجود تعبئة عامة أو قرار بتجنيد.

على المستوى المدني، تنظم وزارة الداخلية (Intérieur Gouvernement) سلسلة من تمارين الحماية المدنية تحت مسمى ORSEC، وهي خطط لإدارة الأزمات في حال وقوع كوارث طبيعية أو صناعية أو حتى نووية. هذه التمارين تجرى على مستوى المحافظات بشكل دوري وتستهدف رفع كفاءة الأجهزة المحلية في التعامل مع الأزمات. كما تشارك فرنسا، مثلها مثل باقي أعضاء حلف شمال الأطلسي، في تمرين إدارة الأزمات المعروف بـ CMX، وقد أجريت نسخته الأخيرة سنة 2025 تحت مسمى CMX 25. هذا التمرين يختبر مسارات القرار والإجراءات البيروقراطية والدبلوماسية في حال نشوب أزمة، وهو تمرين نظري في جزء كبير منه، ولا علاقة له بعملية تعبئة وطنية أو تجنيد للسكان.

وزارة الخارجية الفرنسية (Diplomatie.gouv.fr) نشرت تفاصيل هذه المشاركة موضحة أن الهدف هو تقوية آليات اتخاذ القرار، لا إعلان حرب.

من جانب آخر، صادف كل هذا الجدل توقيتًا حساسًا في فرنسا، حيث كانت الحكومة قد أصدرت المراجعة الوطنية الإستراتيجية 2025، وهي وثيقة مرجعية تحدد التوجهات الكبرى في مجال الدفاع والأمن. الوثيقة التي نُشرت على الموقع الرسمي للحكومة (info.gouv.fr) تحدثت عن ضرورة بناء “أمة أكثر صلابة” في مواجهة التحديات الدولية، وعن رفع قدرات الجيش والتنسيق بين القطاعات المختلفة للدولة. لكنها لم تتضمن أي مرسوم بتعبئة عامة، ولم تشر إلى وجود تجارب تعبئة للسكان. الوثيقة جاءت في سياق مراجعة شاملة للاستراتيجية الفرنسية بعد التغيرات التي يشهدها العالم، وهي أقرب إلى إعلان نوايا سياسية ودفاعية أكثر من كونها خطة عملية لتجنيد المواطنين.

عند وضع كل هذه المعطيات جنبًا إلى جنب، يتضح أن ما حدث هو خلط بين عدة مستويات من المعلومات: تعليمة صحية احترازية صدرت في يوليوز 2025، تصريحات وزيرة الصحة التي تحدثت عن الاستباق والتحضير، التمارين العسكرية والمدنية الدورية التي تجريها فرنسا بشكل سنوي، وأخيرًا مراجعة استراتيجية وطنية ذات طابع سياسي عام.

هذا الخليط تحول على منصات التواصل الاجتماعي إلى خبر مثير يربط بين “التعبئة” و”الحرب” و”التجنيد”، وهو أمر لا يستند إلى أساس رسمي.

من الناحية الصحفية، يبرز هذا المثال مرة أخرى أهمية التحقق من الأخبار قبل إعادة نشرها أو مشاركتها. ففي ظل التوترات الدولية الحالية، أي خبر يحمل كلمة “تعبئة” أو “حرب” يجد طريقه سريعًا إلى التداول الجماهيري، حتى إن لم يكن دقيقًا أو حتى إن صدر عن قراءة مبتورة لوثائق رسمية. الإعلام الفرنسي نفسه تعامل مع الموضوع ببرودة، حيث ركزت Euronews على الطبيعة الاحترازية للتعليمة، فيما اكتفت BFMTV بنقل تصريحات الوزيرة لتوضيح الموقف. لا أحد من المنابر الكبرى تحدث عن “تجارب تعبئة عامة” أو عن “حرب وشيكة”، وهو ما يكفي ليتضح حجم المبالغة في ما يُتداول عربيًا على شبكات التواصل.

إضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن فرنسا، مثل باقي الدول الأوروبية، تفضل استخدام مصطلح “الجاهزية” أو “résilience” في وثائقها الرسمية، وهو مفهوم يرتبط أكثر بقدرة المجتمع على الصمود أمام الأزمات المتنوعة، وليس مرتبطًا مباشرة بالتعبئة العسكرية الكاملة كما كان الحال في منتصف القرن العشرين. المراجعة الوطنية الإستراتيجية الأخيرة، مثلًا، تحدثت عن تعزيز التكامل بين المؤسسات، وتحسين استباق المخاطر، وتطوير الصناعات الدفاعية، لكنها لم تُشر إطلاقًا إلى إعادة العمل بالتجنيد الإجباري أو تعبئة السكان في معسكرات. وهذا يوضح أن الخطاب الرسمي الفرنسي يتجه إلى بناء دولة مستعدة للأزمات المعقدة، وليس إلى حشد المواطنين نحو الجبهات.

فرنسا لم تعلن عن أي تجارب تعبئة عامة، ولم تُصدر أي مرسوم بهذا المعنى. ما جرى هو تعليمة صحية احترازية تهدف إلى رفع جاهزية المستشفيات، وتمارين عسكرية ومدنية روتينية جرى تأويلها بشكل مبالغ فيه، إلى جانب وثيقة استراتيجية تحمل خطابًا عامًا عن الصلابة الوطنية. كل ذلك تم تجميعه على شبكات التواصل في صيغة واحدة مضللة توحي بوجود تعبئة وطنية شاملة استعدادًا للحرب، وهو ما لم يحدث.

المؤكد حتى صباح الاثنين 8 شتنبر 2025 أن فرنسا لم تُعلن أي نوع من التجارب التي تستهدف تجنيد السكان أو تعبئة عامة للدولة، بل تواصل سياستها المعتادة في إدارة الأزمات من خلال خطط استباقية وتمارين دورية معلنة للرأي العام. وبالتالي فإن الادعاء الذي انتشر على المنصات الرقمية مضلل ويعكس قراءة خاطئة للوقائع.

المصادر: Euronews، BFMTV، Ministère des Armées، Intérieur Gouvernement، Diplomatie.gouv.fr، info.gouv.fr

التعاليق (0)

اترك تعليقاً