بفلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
- تحليل: مفارقة النظام الجزائري بين تمجيد احتجاجات الجار وتجريم احتجاجات الدار
في مشهد سياسي لا يخلو من المفارقة والتناقض، يعيش النظام العسكري الجزائري حالة ارتباك غير مسبوقة، بعدما وجد نفسه في مواجهة احتجاجات شبابية متصاعدة تهدد استقراره الداخلي، بينما كان بالأمس القريب يُمجد ويصفق لأي حراك شعبي يقع خارج حدوده، خاصة حين كان موجهاً ضد المغرب. اليوم، وقد اشتعلت نيران الغضب في شوارع الجزائر ذاتها، أصبح النظام ذاته يسعى، في الخفاء، إلى تهدئة الأوضاع وإلى تحميل الجار الغربي مسؤولية ما يجري، بل يطلب منه ضمنياً أن “يضبط” مجتمعه حتى لا يمتد لهيب الشارع إلى الضفة الأخرى من الحدود.
- جيل “Z” الجزائري.. الوريث الجديد لروح الحراك
لم تكن دعوات شباب جيل “Z” في الجزائر للنزول إلى الشوارع يوم الثالث من أكتوبر 2025 حدثاً عابراً. فقد أعلنت مجموعة تُعرف باسم “GenZ213” عن “زحفها إلى المرادية لطرد العصابة”، في إشارة إلى رموز النظام الحاكم منذ عقود. هذا الجيل، الذي وُلد في زمن التكنولوجيا والانفتاح، يرى نفسه الوريث الحقيقي لحراك 2019 الذي أطاح بالرئيس بوتفليقة، لكنه لم ينجح في كسر قبضة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة.
بيانات الشباب وُصفت بأنها إعلان لعودة “روح الحراك”، لكن بزخم رقمي وتنظيمي جديد، يعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي التي حاولت السلطات مراراً مراقبتها واحتوائها. ومع ذلك، فإن الشعارات المرفوعة “الحرية للجزائر والحرية لفلسطين” تعكس وعياً مزدوجاً: داخلياً ضد الاستبداد، وخارجياً ضد النفاق السياسي الذي يمارسه النظام حين يستخدم القضية الفلسطينية غطاءً لشرعنة قمعه الداخلي.
- من تمجيد “الحراك المغربي” إلى تجريم “الحراك الجزائري”
من المفارقات البارزة أن هذا النظام نفسه، الذي يصور كل احتجاج داخلي كمؤامرة أجنبية، كان قبل سنوات يروج ( عبر إعلامه الرسمي والرقمي ) لمشاهد احتجاجات المغرب كدليل على “غليان اجتماعي” في المملكة. حينها، لم يتردد في تبني خطاب “الربيع المغربي المؤجل” والحديث عن “نهاية المخزن”.
اليوم، انقلب المشهد رأساً على عقب: فبعد أن “اكتوى بنار” الشارع في بلده، أصبح النظام العسكري يطالب، بشكل غير معلن، بتعاون أمني ومخابراتي مغربي لاحتواء عدوى الاحتجاجات العابرة للحدود، خشية أن تتحول الجزائر إلى “نقطة الاشتعال الكبرى” في شمال إفريقيا.
هذا التحول في الموقف يكشف عمق الازدواجية التي تحكم رؤية النظام الجزائري، الذي يعيش في حالة إنكار دائم: فهو يعتبر الاحتجاج في المغرب علامة “ضعف”، بينما يعدّه في الجزائر “مؤامرة”، ويخلط بين المطالبة بالإصلاح وتهديد الأمن القومي.
- البرلمان يبرر، والمعارضة تكشف
تصريحات النائب الجزائري عبد الوهاب يعقوبي لوكالة “سبوتنيك” الروسية، التي تحدث فيها عن “وجود محاولات خارجية لاختبار ردود الفعل الأمنية والسياسية في الجزائر”، ليست سوى استمرار لخطاب رسمي قديم يختزل كل مظاهر الغضب الشعبي في “أذرع خارجية”. لكن المثير هو أنه، رغم هذا الاتهام، أقر ضمناً بشرعية مطالب الشباب وحقهم في التعبير عن الإحباط.
أما المعارضة الجزائرية، ممثلة في أصوات مثل الناشط شوقي بن زهرة، فترى أن النظام لم ينتظر حتى تتشكل أي تجمعات، بل لجأ إلى “إنزال أمني كثيف” غير مسبوق في العاصمة، في مشهد يُذكّر بسنوات الرعب في التسعينيات. بن زهرة أكد أن السلطة “لم تعد تملك سوى لغة الخوف”، وأنها “تستعمل فزاعة المغرب والمؤامرة الخارجية لتبرير القمع الداخلي”.
- حين يفقد النظام بوصلته
ما يعيشه النظام الجزائري اليوم هو ارتداد سياسي وأخلاقي. فبعد أن غذّى إعلامه سرديات العداء للمغرب، واحتفى بأي احتجاج يقع خارجه، يجد نفسه اليوم في مواجهة مرآة الواقع: شباب يرفضون الوصاية العسكرية، ومجتمع لم يعد يصدق رواية “العدو الخارجي”.
والأدهى أن السلطة، التي لطالما تغنت بأنها “حامية القضايا العربية”، تمنع حتى الوقفات المؤيدة لفلسطين داخل الجزائر، لأنها تخشى أن تتحول أي مظاهرة إلى شرارة تطالب بإسقاط النظام.
- الخلاصة: درس النار لمن كان يشعلها
النظام العسكري الجزائري، الذي طالما استثمر في خطاب “زعزعة استقرار الجار”، يكتشف اليوم أن النار التي أشعلها في خطاباته الإعلامية والسياسية قد وصلت إلى داره.
فمن يمجّد احتجاجات الخارج لا يمكنه أن يجرّم احتجاجات الداخل دون أن يفقد مصداقيته أمام شعبه.
وإذا كان بالأمس يهلل لأي هتاف في شوارع الرباط أو الحسيمة، فإنه اليوم يترقب بقلق الهتاف القادم من باب الواد والقصبة ووهران وعنابة، حيث جيل جديد يقول للنظام العسكري: “لقد انتهى زمن الخوف”.