بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
تمر السنوات ويغادر الإنسان مساره المهني بعد عقودٍ من العطاء، تاركًا خلفه أثرًا من الجهد والإخلاص، ليبدأ مرحلة جديدة تُسمّى “التقاعد”. مرحلةٌ كان يُفترض أن تكون زمنَ الراحة والكرامة، لكنها بالنسبة لكثيرين أصبحت زمنًا للمعاناة والصعوبات المعيشية، في ظل غياب مبادرات فعلية تُنصف هذه الفئة التي أفنت أجمل سنوات عمرها في خدمة الوطن.
لقد أصبحت أوضاع المتقاعدين اليوم مقلقة ومؤلمة، بعد أن ظلت معاشاتهم جامدة لأكثر من عقدين من الزمن، دون أي مراجعة تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية. فبينما ترتفع تكاليف المعيشة عامًا بعد عام، وتتراجع القدرة الشرائية باستمرار، يجد المتقاعد نفسه محاصرًا بين التزامات أسرية وصحية متزايدة ومعاشٍ لم يعد يكفي لتأمين أبسط ضروريات الحياة الكريمة.
ولعلّ ما يزيد من قسوة هذا الوضع هو تغييب المتقاعدين عن الحوار الاجتماعي، وكأنهم لم يعودوا جزءًا من النسيج الوطني الفاعل، رغم أنهم يشكلون شريحة واسعة من الطبقة الوسطى التي ساهمت لعقود في بناء الاقتصاد والإدارة والخدمات العمومية.
إن تجاهل صوت المتقاعد اليوم، هو تجاهل لتاريخ من العطاء والمواطنة المسؤولة.
كما يواجه كثير من الأسر بعد وفاة المتقاعد مشكلات ناتجة عن نظام معاشات ذوي الحقوق، الذي يقتطع جزءًا كبيرًا من المعاش، مما يجعل الأرامل في وضع اجتماعي هشّ، ويُفقد العائلة مصدر رزقها الأساسي في غياب دعم فعلي ومستدام.
وإلى جانب ذلك، يلاحظ أن بعض مؤسسات الأعمال الاجتماعية لا تعير أي اهتمام لهذه الفئة، بل إنّ سلوكها في أحيانٍ كثيرة ينمّ عن نظرة دونية أو احتقارٍ مبطن، في حين أن المتقاعدين هم الأَولى بخدمات هذه المؤسسات، لأنهم ساهموا في بنائها واستمراريتها خلال سنوات عملهم الطويلة. إن إقصاءهم من هذه المبادرات الاجتماعية يُعدّ تقصيرًا واضحًا في حقهم، ويناقض القيم التضامنية التي يفترض أن تقوم عليها الدولة والمجتمع.
وفي المقابل، فإن المتقاعد نفسه مطالب بأن يكون إيجابيًا وفاعلًا في المجتمع، لا أن يستسلم للعزلة أو السلبية. فالتقاعد لا يعني التوقف عن الحياة، بل هو فرصة لإعادة اكتشاف الذات والمساهمة في ميادين جديدة من العمل التطوعي والثقافي والاجتماعي.
إن استمرار النشاط الذهني والجسدي يحافظ على الكرامة ويمنح الحياة معنى متجددًا، بخلاف من نراهم بكل أسف ، يقضون أوقاتهم على هوامش الطرق وأسوار الأزقة، وقد فقدوا الإحساس بالقيمة والدور.
إن إنصاف المتقاعدين واجب وطني وأخلاقي، لا مجرد استجابة مطلبية. فهؤلاء هم بناة الأمس، وأبناء الوطن الذين خدموه بصمتٍ ونزاهة. ومن واجب الدولة أن تضمن لهم عيشًا كريمًا، وأن تُقرّ زياداتٍ دورية في معاشاتهم تراعي كلفة الحياة المتزايدة، أسوةً بما يُطبّق على الأجور النشيطة.
كما ينبغي إشراك ممثلي المتقاعدين في الحوار الاجتماعي، باعتبارهم طرفًا أساسيًا في المعادلة الاجتماعية، والاستماع إلى مقترحاتهم بخصوص تحسين أنظمة التقاعد ومراجعة معاشات ذوي الحقوق، حتى تظل كرامة الإنسان مصونة بعد انتهاء خدمته.
إن المتقاعد ليس عبئًا على الدولة، بل ذاكرة من الوفاء والعطاء، وتجسيدٌ حيّ لفكرة الاستمرارية بين أجيالٍ تبني اليوم وأخرى بنت بالأمس.
فلنتذكّر دائمًا أن كل عاملٍ وموظفٍ اليوم، هو متقاعد الغد، وأن رعاية هذه الفئة ليست ترفًا، بل مقياسًا حقيقيًا لمدى إنسانية الدولة وعدالة المجتمع.
