ثلاثة ملوك… ثلاثة أعياد للوحدة: كيف صنع المغرب مسار دولته الحديثة من التحرير إلى التثبيت؟

مجتمع

بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية

خلال أسابيع قليلة فقط، من 31 أكتوبر إلى 18 نونبر، يعيش المغرب أكثر فتراته رمزيةً من العام؛
ثلاث محطات وطنية تتوالى كصفحات كتاب واحد:
عيد الوحدة، ثم المسيرة الخضراء، فــعيد الاستقلال.
وبالرغم من أن كل محطة ارتبطت بملك وبمرحلة تاريخية مختلفة، فإن الخيط الناظم بينها هو قصة بناء الدولة المغربية الحديثة، قصة تحققت عبر ثلاثة أجيال من القيادة وثلاثة نماذج من التفكير السياسي.
هذه الأعياد ليست تقويمًا وطنيًا فحسب، بل هي شيفرات تاريخية تلخص مسارًا امتد من التحرّر إلى الاسترجاع ثم إلى التثبيت والتنمية. إنها قصة مغربٍ عرف دائمًا كيف يرى أبعد من اللحظة الراهنة، وكيف ينسج وحدته بخيط طويل ومتقن.

الفصل الأول: محمد الخامس… لحظة ميلاد الدولة واستعادة السيادة

يعود المغرب كل 18 نونبر إلى واحدة من أكثر لحظاته قوة ورمزية: إعلان الاستقلال سنة 1956.
لكن ما وراء الحدث السياسي يكمن فصلٌ إنساني وسياسي شديد العمق؛ فمحمد الخامس طيباللهثراه ، الذي حاول الاستعمار إبعاده ونفيه، عاد أقوى من أي وقت مضى بعد أن وجد في شعبه سندًا غير مسبوق.

  • بين المنفى والعودة: ولادة الشرعية الوطنية

لم يكن نفي محمد الخامس سنة 1953 مجرد حلقة عابرة.
لقد كان نقطة التحول التي جمعت الشعب حول ملكه، وأعادت صياغة العلاقة بين العرش والمجتمع.
كان الاستعمار يعتقد أن غياب الملك سيُضعف الحركة الوطنية، لكنه خلق العكس تمامًا:
تكثفت المقاومة، وتوحّدت القوى الوطنية، وازداد الالتفاف حول العرش.
وعندما عاد الملك، لم يعد فقط إلى العرش، بل عاد قائدًا لميلاد دولة، دولة تبحث عن مؤسساتها وقوانينها وإدارتها.

  • أوراش الاستقلال… بناءٌ من الصفر

بعد طي صفحة الحماية، وجد المغرب نفسه أمام ورش ضخم:
-بناء مؤسسات سيادية جديدة،
-تأميم الإدارة وتكوين الأطر،
-تعريب التعليم،
-ضمان استقلال القرار السياسي.
كانت تلك السنوات شاقة، لكنها كانت تأسيسية بامتياز.
ولهذا، ظلّ محمد الخامس طيب الله ثراه في الذاكرة الوطنية رمزًا لبداية المسار:
مسار مغرب يستعيد نفسه بعد عقود من الوصاية.

الفصل الثاني: الحسن الثاني… المسيرة الخضراء ودهاء السياسة في استرجاع الصحراء

حين اعتلى الملك الحسن الثاني رحمه الله العرش، كان المغرب يعيش مرحلة انتقالية دقيقة.
تمّ تثبيت الدولة، لكن خارطة الوطن لم تكتمل بعد.
كانت الصحراء المغربية بُعدًا غائبًا، ورهانًا حاضرًا في وجدان المغاربة.

  • التحضير للمسيرة: عمل دبلوماسي وصبر تاريخي

لم تكن المسيرة الخضراء فكرة وُلدت في يوم واحد.
سبقتها مفاوضات طويلة، وإعداد دبلوماسي، واستراتيجية دقيقة.
فمنذ أوائل السبعينيات، قاد الملك الحسن الثاني معركة ملفات في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، إلى أن صدر الرأي الاستشاري عام 1975 الذي فتح الباب أمام حلّ سلمي للقضية.

وهنا برز ذكاء الحسن الثاني رحمه الله:
إطلاق مسيرة سلمية ضخمة بدل المواجهة المسلحة.

  • 6 نونبر 1975… اليوم الذي سار فيه التاريخ

350 ألف مغربي وُلدوا في مدن مختلفة، خرجوا في اتجاه واحد… نحو الصحراء.
لم يحملوا سوى المصاحف والأعلام، في رسالة واضحة:
“الصحراء مغربية… والحق يُستعاد بالسلم”.
وقد شكلت المسيرة حدثًا عالميًا، لأنها كسرت نمط النزاعات الإقليمية في تلك الفترة، وأعادت رسم الجغرافيا بطريقة حضارية.

  • من الأرض إلى الإنسان: تثبيت الوحدة على المدى البعيد

بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية، بدأت مرحلة أخرى:

-بناء البنيات التحتية،
-إدماج المجتمع الصحراوي في الحياة الوطنية،
-تعزيز التنمية.

وفي هذه المرحلة اكتمل ما بدأه محمد الخامس طيبالله ثراه:
وحدة التراب بعد استقلال القرار.

الفصل الثالث: محمد السادس… عصر الاعتراف الدولي والنموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية

مع بداية الألفية، تغيرت أولويات الدولة.
لم تعد القضية فقط قضية حدود واسترجاع، بل أصبحت قضية تثبيت، وتأثير، واعتراف دولي.
وفي هذا السياق، برز عيد جديد في الروزنامة الوطنية: عيد الوحدة (31 أكتوبر).

  • لماذا الآن؟ لأن المغرب دخل مرحلة جديدة

شهدت السنوات الأخيرة تحولات عميقة:

-ارتفاع عدد الدول التي تعترف بسيادة المغرب على الصحراء،
-افتتاح أكثر من 30 قنصلية بمدينة العيون والداخلة،
-دعم متزايد لمبادرة الحكم الذاتي،

وتوجه المغرب نحو إفريقيا بصيغة جديدة.
هذه التطورات أعطت للملف زخمًا دوليًا غير مسبوق.

  • النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية: من الاسترجاع إلى الإقلاع

لم يعد الحديث منصبًا على الصحراء كقضية سياسية فقط.
فاليوم هي مجال اقتصادي ناشئ، وبوابة بحرية على الأطلسي، ونقطة ربط استراتيجية بين إفريقيا وأوروبا.

أوراش كبرى غيّرت وجه المنطقة:

-ميناء الداخلة الأطلسي،
-الطرق السريعة
-مشاريع الطاقات المتجددة،
-الاستثمار في السياحة والاقتصاد الأزرق.

أصبح المغرب يُقدّم للعالم نموذجًا:
هكذا نبني الأقاليم المسترجعة… وهكذا نصنع التنمية في فضاء استراتيجي.

ثلاثة أسابيع من الاحتفال… وسبعون سنة من التاريخ

بين 31 أكتوبر و 18 نونبر، يعيش المغرب تقويمًا مضغوطًا بالرموز.
لكن خلف هذا التقارب الزمني قصة متكاملة:

-31 أكتوبر: نعيش حاضر الوحدة ونتطلع إلى المستقبل.
-6 نونبر: نستحضر المسيرة كذاكرة تُلهم الأجيال.
-18 نونبر: نعود إلى جذور الدولة الحديثة.

التقارب الزمني يكشف أن هذا المسار لم يكن مشتتًا، بل كان استمرارًا طبيعيًا لرؤية واحدة، وُلدت مع محمد الخامس طيبالله ثراه، واكتسبت قوتها مع الحسن الثاني رحمهالله، وتحوّلت إلى سياسة استراتيجية شاملة مع محمد السادس نصره الله وأيده .

  • خاتمة : دولة تُبنى على تناسق الأجيال

عندما ننظر إلى هذه الأعياد الثلاثة، نفهم أن المغرب لم يصنع وحدته بقرار مفاجئ أو بسياسة ظرفية، بل بناها عبر ثلاثة أجيال من الحكم:
-جيل التحرير،
-جيل الاسترجاع،
-جيل التثبيت والتنمية.

إنها قصة مغربٍ يعرف كيف يحوّل التحديات إلى فرص، وكيف يربط الحاضر بالماضي دون أن يتوقف عن بناء المستقبل.
قصة دولة تتطور دون أن تفقد بوصلتها: الوحدة والسيادة والاستقرار.