بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
يشهد العالم الرقمي اليوم انزياحًا خطيرًا في منظومة القيم والمعايير. فالتفاهة التي كانت تُعامَل سابقًا كشذوذ فردي أصبحت ظاهرة منتظمة، بل صناعة قائمة على خوارزميات تقيس القيمة بالانتشار لا بالمضمون. وفي الوقت ذاته، بات التنمر الإلكتروني جزءًا من “عادات التواصل”، يمارسه البعض بلا وعي، ويتلقاه آخرون بكل الألم الذي تحمله الكلمات عندما تُلقى خلف شاشة باردة لكنها جارحة.
هذه الظواهر ليست مجرد تحولات في أسلوب الترفيه، بل هي مؤشرات على تحوّل اجتماعي عميق يتجاوز الشاشات إلى تشكيل الذوق العام، وتوجيه سلوك الأجيال، وإعادة تعريف معنى الحرية وحدودها في المجال الرقمي.
- التفاهة… حين يصبح اللاشيء معيارًا للنجاح
لقد أصبح المحتوى السطحي معيارًا للترند، وصار “المؤثر” يُقاس بعدد المشاهدات لا بعمق الرسالة. وهذا التحول ليس بريئًا؛ إنه نتيجة منظومة اقتصادية تعتمد على جذب الانتباه بأي ثمن، ولو كان الثمن هو انحطاط الذائقة الجماعية.
إن انتشار التفاهة ليس عفويًا، بل هو نتيجة تفضيل الخوارزميات للمحتوى السريع والسهل والمشوّق، على حساب المعرفة والوعي.
- التنمر الرقمي… الوجه العنيف للسطحية
في ظل هذا المناخ، يجد التنمر الإلكتروني تربة خصبة لينتشر:
سخرية، تجريح، تشهير، وإهانة تصل أحيانًا إلى التهديد.
واللافت أن ثقافة التفاهة تُسهِم في تطبيع التنمر؛ فحين تسود السطحية، يتراجع التعاطف، ويُصبح الاستهزاء من الآخر “محتوى” مقبولاً يدرّ المتابعة والمال.
التنمر الرقمي ليس مجرد كلمات؛ إنه عنف ناعم، لكنه يخلّف آثارًا حقيقية: فقدان الثقة، انسحاب اجتماعي، اضطرابات نفسية، وربما انهيارات مدمرة.
- الردع… ضرورة لحماية المجتمع
لا يمكن لمجتمع يريد الحفاظ على توازنه أن يترك المجال الرقمي بلا قوانين.
الردع هنا لا يعني قمع الحرية، بل حماية الحرية من الانزلاق إلى الفوضى.
وتشمل أدوات الردع:
-تشريعات واضحة تجرّم التنمر وتحد من المحتوى الهابط حين يشكل ضررًا عامًا
-التزام المنصات بتصفية المحتوى العنيف والمهين
-محاسبة صُنّاع المحتوى الذين يحوّلون التفاهة أو التنمر إلى تجارة مربحة
لكن الردع وحده لا يصنع مجتمعًا راشدًا؛ إنه فقط يضع الحدود.
- الوعي… الجبهة الحقيقية للمعركة
التحصين الثقافي والتربوي هو الجبهة الأكثر أهمية وعمقًا.
فالأجيال اليوم تعيش في بيئة رقميّة تُعيد تشكيل عقولها بطرق غير مرئية:
خوارزميات تُكافئ التفاهة، ومحتوى يُطبّع العنف، ومؤثرون بلا مسؤولية يوجّهون السلوك.
لذلك يصبح تعليم الأجيال:
-كيف تعمل المنصات؟
-كيف نميّز التضليل من الحقيقة؟
-كيف نرتقي بالذوق العام؟
-وكيف نحمي أنفسنا من التنمر ونعزز ثقافة الاحترام؟
أمرًا ملحًا لا يقل أهمية عن التعليم الأكاديمي نفسه.
- خلاصة الرأي: معركة لا يخوضها القانون وحده
التفاهة ليست ترفيهًا، والتنمر ليس مزاحًا… كلاهما تهديدان لقيم المجتمع ولمناعته المعرفية والأخلاقية.
ومواجهتهما تتطلب توازنًا دقيقًا بين الردع الذي يضع الحدود، والوعي الذي يرفع السقف.
فالقوانين تنظّم السلوك، لكن الثقافة هي التي تُعيد تشكيله.
إن المعركة الحقيقية ليست بين الإنسان والتكنولوجيا، بل بين الإنسان ونسخته الرقمية التي يُعاد تشكيلها دون وعي.
والمجتمع الذي يريد مستقبلًا أكثر صحة ورقيًّا يحتاج إلى أن يدرك أن حماية الفضاء الرقمي ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية كل فرد يحمل هاتفًا… أو يضغط “إعجابًا”.
