عبدالله بن عيسى
يشكّل ملف السياسات العمومية وتقييمها أحد أعمدة النقاش السياسي والإداري الراهن، لأنه يمسّ جوهر علاقة الدولة بالمجتمع.. كيف تُصاغ السياسات؟ من يراقبها؟ وهل تنعكس على حياة المواطن كما وُعِد؟ فمنذ الاستقلال اعتمد المغرب مقاربةً مركزيةً في التخطيط، ومع تطوّر الدولة وتوسّع مؤسساتها أصبح إدماج أدوات التقييم والمساءلة ضرورةً لتصحيح اختلالات التنفيذ.
ومع دستور 2011 انتقل النقاش رسميًا من مرحلة “الإعلان عن السياسات” إلى مرحلة “قياس أثرها”، بما يفرض الانتقال من منطق الشعارات إلى منطق النتائج.
السياسة العمومية، في تعريفها العملي، هي حزمة قرارات وبرامج وتدخلات موجّهة لحل مشكلات عمومية محدّدة كالفقر والبطالة والتفاوت المجالي والتعليم والصحة والبيئة. ولكي تكون ناجعة، يُشترط أن تنطلق من تشخيص دقيق للمشكل، وأن تُحدّد أهدافًا قابلة للقياس، وأن تختار الوسائل والأدوات والموارد المناسبة، وأن تُؤمّن تنسيقًا مؤسسيًا في التنفيذ، ثم تُرفق بمنظومة تتبّع وتقييم تسمح بالتصحيح في الزمن الحقيقي. من هنا يغدو التقييم جوهر الحكامة الحديثة لا ترفًا أكاديميًا؛ إذ يجيب عن السؤال البسيط الصعب.. هل تحقّق الدولة ما تعِد به؟ وقد شهد المغرب إطلاق برامج كبرى مثل “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، و“مدن بدون صفيح”، و“الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم”، و“النموذج التنموي الجديد”، لكن مؤسسات الرقابة، كالمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تُذكِّر باستمرار بأن الجدوى تُقاس بالأثر لا بالإنفاق.. هل تحسّنت الخدمات؟ هل تغيّرت حياة الناس؟ وهل استُعمل المال العام بكفاءة؟
دستور 2011 منح التقييم مكانةً دستورية؛ فالبرلمان يشارك في تقييم السياسات (الفصل 70)، والمجلس الأعلى للحسابات يراقب صرف المال العام وفعالية البرامج، كما أُحدثت هيئات مسانِدة: المرصد الوطني للتنمية البشرية لتتبّع الأثر الاجتماعي، والمندوبية السامية للتخطيط لتوفير المعطيات الإحصائية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لإبداء الرأي العلمي، فضلًا عن جهود الانتقال الرقمي لإدماج التتبّع الرقمي بالخدمات.
غير أن التحدّي، كما يلاحظ أكاديميون مغاربة، ليس في نقص النصوص أو المؤسسات، بل في “ثقافة التقييم” ذاتها.. يُشير أساتذة وباحثون إلى هيمنة منطق “إنجاز المشاريع” على منطق “أثر المشاريع”، وإلى انحصار التقييم أحيانًا في البعد المالي/المحاسباتي بدل التقييم الاستراتيجي الشامل، وإلى تأخّر التقييم إلى ما بعد نهاية البرامج بدل إجرائه كمسارٍ مستمرّ يسمح بالتصحيح في الوقت المناسب.
ثمة عقبات بنيوية تُضعف التقييم.. هشاشة قواعد البيانات وضعف أنظمة المعلومات داخل عدد من الإدارات، خصاص في الكفاءات المتخصصة في تحليل السياسات والتقييم، تردد بعض المسؤولين خشية المساءلة ما يحدّ من الانفتاح على التقييم المستقل، تعقّد التنسيق بين فاعلين متعدّدين دون وضوح صارم في من يُحاسِب من، وأحيانًا توظيف التقييم لتصفية حسابات سياسية بدل جعله أداةً للإصلاح.
ومع ذلك، برزت تجارب مغربية مفيدة.. تقييمات مستقلة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية كشفت نقاط قوة وخلاصات تصحيحية على صعيد الحكامة المحلية والاستدامة؛ وتقييم إصلاح التعليم (2015–2023) بيّن فجوةً بين الطموح والنتائج بسبب ضعف التنسيق والقيادة؛ وأعمال المرصد الوطني للتنمية البشرية أظهرت تحسّن مؤشرات في التمدرس والصحة بالتوازي مع استمرار فوارق جهوية ينبغي استهدافها بسياسات أدق.
ما العمل إذن؟ بناء ثقافة تقييم فاعلة يبدأ بجعل التقييم “حقًا للمواطن” عبر شفافيةٍ استباقية تُطلع الناس على أين تذهب الضرائب وما أثر المشاريع على حياتهم، ثم إشراك الجامعات ومراكز البحث والخبـراء المستقلين في التقييم بدل حصره داخل الإدارة، وتكوين مسارات وظيفية لخبراء التقييم العمومي داخل الدولة، وتوظيف الرقمنة والذكاء الاصطناعي لتجميع وتحليل البيانات في الزمن الحقيقي، وتحفيز المجتمع المدني والإعلام الجاد على دور رقابي موثّق، وربط التمويل العمومي بدورة تقييم صارمة.. لا اعتمادات جديدة بلا حصيلة مُقيمة وقابلة للتحقق. هذا ما ينسجم مع روح “النموذج التنموي الجديد” (2021) الذي رفع التقييم والمساءلة إلى مرتبةٍ مؤسِّسة وأوصى بآلية وطنية لتقييم السياسات ترتبط مباشرة برئيس الحكومة وتشتغل بمنطق النتائج.
هذا، أن الرهان اليوم ليس مزيدًا من الخطط واللجان بقدر ما هو شجاعة تقييم وجرأة محاسبة..من “الدولة المُنفِّذة” إلى “الدولة المتعلّمة” التي تحوّل كل برنامج إلى مختبر تعلّم، وتعترف بنجاحاتها كما تعترف بأخطائها فتُصحّحها.
فالمواطن المغربي بات أكثر مطالبةً بلغة الأرقام والأثر لا لغة الوعود والعناوين؛ والثقة لن تُستعاد بخطاب عامّ بل بإنجاز ملموس وتصحيح شفاف.
من هنا نؤمن نحن المتتابعين بأن مغرب الغد يُبنى بسياسات تتكلّم لغة المؤشرات وتُقاس بمدى خدمتها للإنسان، وبإدارة تعتبر التقييم ممارسةً دائمة لا محطةً ظرفية؛ وحين تنتصر ثقافة التعلّم المؤسسي على ثقافة التبرير، يصبح الإصلاح ممكنًا والثقة قابلةً للاسترجاع والتنمية واقعًا لا شعارًا.
التعاليق (0)