ذ. محمد بادرة
1- فكر الخرافة ومرض المؤامرة في الاعلام والسياسة العربية
وصف الصحفي العالمي روبرت فيسك الاعلام المعاصر بانه ( جريمة القرن العشرين) ومشبها اياه كعصى سحرية تتحكم بالعقول وتوجهها لتبني مواقف مختلفة فكانت لها القدرة على خلق واقع وهمي لا يمكن ان تراه الا من خلال الاعلام ووسائل الاتصال الحديثة مسايرا في نفس الراي الفيلسوف الفرنسي جان بوديار الذي يحاول ان يبلور صورة الواقع الذي نعيشه اليوم وهو اقرب الى الوهم منه للحقيقة حيث ان الكثير من المعطيات والصور المتداولة في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عندما نقارنها بارض الواقع نكتشف ان الواقع مصطنع وان كثيرا من هذه الصور و”الحقائق” الاخبارية التي تنتشر وتشيع في اوساط النخب السياسية والثقافية واوساط الجمهور وعامة الناس هي حقائق وهمية تغذيها وسائل الاتصال وتوفر لها فرصا لمزيد من الانتشار من قبيل اخبار الحروب الاقتصادية والمخاوف الامنية والصحية.. التي لا وجود لها الا في اذهاننا وعقولنا لذا فما نعيشه اليوم ليس سوى حروبا وهمية تهدد عقولنا التي صنعتها وتصنعها الات الاعلام لتخدم اجندات مختلفة تنصب كلها لصالح الاقوى الذي يقدم نظرته وفكره في ثوب الحقيقة تارة وفي ثوب الحرية تارة اخرى.
في هذا العصر، عصر الاتصال والثورة المعلوماتية اعتاد جيلنا على الفضائيات وشبكة الانترنيت لتشكيل افكارها واتجاهاتها ومبادئها وفلسفاتها الحياتية فتعودت على اجتراع الوهم لمداواة النقص والهروب من الواقع ومالت عقولها الى تلقي الوهم والتضليل الاعلامي حتى انتشرت الخرافات السياسية في اوساط الخاصة والعامة وخصوصا تلك التي ترى المؤامرة وراء معظم الافعال والاحداث العالمية والاقليمية والمحلية ولقد ساهمت وسائل الاعلام الجديدة في نشر هذا الوهم والخرافة بشكل اوسع .
ان العقلية العربية اكثر من غيرها تقبلا للوهم والمبالغات ويرتفع لديها مستوى التفكير السياسي الخرافي ذي الطابع التأمري حيث يعتقد ان وراء كل حدث او فعل سياسي مؤامرة.. انها عقلية تربت على خطب الحماسة وقصص البطولات الملحمية وامجاد الماضي وولعت بالتفسيرات الخرافية للأحداث وخصوصا تلك التي ترى المؤامرات وراء معظم الافعال والاحداث العالمية والاقليمية والكثير من التطورات الداخلية.. ان العقلية العربية تعيش على منجزات من التاريخ ولا تقبل ان تسقط في هاوية الافلاس والهزيمة ولذا تميل الى التفسير التأمري للأحداث.. واليوم لم تعد قادرة على صنع حضارة بل تعمل على اعادة صياغة وتوضيب امجاد الاجداد في ثوب جديد فارغ من المحتوى وتنتج ثقافة سياسية خرافية وترد كل خراب وفساد وفقر وتسلط الى مؤامرات تحيكها قوى خارجية شيطانية تتامر علينا وتعمل لإضعاف مجتمعاتنا وتسعى الى تدمير هويتنا وهذا الوهم والخرافة والتآمر لا يقتصر على النخب السياسية والثقافية بل حتى الاعلاميين الذين يعملون في الجرائد والصحف او خلف الميكروفونات وامام الشاشات الفضائية وفي مواقع الانترنيت يهرولون ويفبركون الاحداث بعيدين كل البعد عن المهنية واحترام عقل القارئ والمشاهد:
- انظر كيف استقبل المثقفون والاعلاميون العرب لحادثة رمي الحذاء على جورج بوش الابن الرئيس السابق للولايات المتحدة في مؤتمر صحفي ببغداد فقد كان من التهويل ان البعض اعتبر هذا “الانجاز” المحقق (رمي الحذاء) على وجه رئيس امريكا بداية انهيار الولايات المتحدة الامريكية وانتصارا لحرية العراق !!!.
- وانظر كيف فسرت احدى القنوات الاعلامية ظاهرة من الظواهر الطبيعية البحرية (تكاثر قناديل البحر) بانه فعل سياسي ومؤامرة من دولة اجنبية “معادية” لضرب السياحة الوطنية واقتصاد البلد.
- وانظر الى الموقف الذي شاع في مرحلة سابقة عند فئة عريضة من المفكرين القوميين العرب حين تم الربط بين الماركسية والصهيونية، فمادام مؤسس الماركسية (كارل ماركس) يهوديا ومادام كثيرا من اليهود يميلون الى الصهيونية اذن فالماركسيون صهاينة او عملاء للصهيونية !! وهذا ميل الى التفسير التأمري للسياسة.
- وانظر الى التفسير التأمري لهجمات 11شتنبر2001 على واشنطن ونيويورك والتي يفسرونها بانها مؤامرة شيطانية امريكية وخطة امريكية للهيمنة على العالم حيث الحاجة الى ذريعة لتحرير الولايات المتحدة الامريكية من اي قيد قانوني او اخلاقي لتحقيق الهيمنة الامبريالية على العالم وان تلك الهجمات الارهابية خططها ونفذها عملاء في المخابرات الامريكية وتم الصاقها بشبكة القاعدة !!!
ان شيوع عقل وتفكير خرافيين في مجتمعاتنا العربية بحثا عن مؤامرة في كل حدث او فعل سياسي هو امر ظاهر للعيان ولكن ما يشغلنا في الاساس هو عوامل تفشي هذا النمط الفكري الخرافي التأمري في السياسة والمجتمع وفي اوساط النخبة والجمهور على السواء على الرغم من اختلاف مستوى المعرفة والادراك والوعي السياسي عند الفئتين. ان من الطبيعي ان يكون الجمهور اقل معرفة وادراكا لما يحدث في عالم السياسة مقارنة بالمثقفين والاعلاميين والسياسيين والفقر المعرفي قد يقبل في صفوف الجمهور لكن النخبة التي يفترض ان تنتج المعرفة وتجددها باستمرار وتعمل على نشرها لأنها هي المنوط بها مهمة اقامة مجتمع المعرفة هي مع الاسف الجهة التي تفسر الاوضاع بأسلوب التفكير الخرافي والتأمري.
النخبة السياسية والثقافية والاعلامية هي من عبأت الجماهير ضد الصهيونية والاستعمار وضد الامبريالية والعولمة لكنها وجهت غضبها الى الخارج ليعفيها من المسؤولية وهو ما ادى الى تكريس وتدعيم التفكير الخرافي الذي يرد هذه الاوضاع الى مؤامرات تحيكها قوى خارجية شيطانية تتامر عليها وتعمل لإضعافها وتسعى الى تدمير هويتها وصار سهلا تعليق اي خطا او خطيئة ترتكبها السلطة او النخبة في حق بلادها وشعوبها على مشجب المؤامرة الخارجية وفي كل المجالات من السياسة الى الرياضة (الجزائر مثلا).
2- الجزائر وهوس المؤامرة ومرض الوهم والخرافة
ان مرض التآمر في عقلية الحاكمين والمحكومين في الجزائر تفاقمت وباتت تهدد بهلاك اجيال نشأت في ظل تسلط الحكم العسكري واثاره الوخيمة على شخصية المواطن الجزائري وعقله ونظرته الى الحياة عموما وليس الى السياسة فقط فالحكم العسكري يحرم المواطن من حرية التفكير والتعبير والاختيار ويحشد المجتمع الجزائري بمعتقدات احادية تجعل المواطن المعارض لهذا الراي او الحكم “خائنا” و”عميلا” للاستعمار او دولة معادية وعدوا للشعب ومتآمرا على الامة !!!
وعمد نظام الحكم العسكري في الجزائر الى تضخيم فكرة المؤامرة واستخدمتها ضد الدول والافراد وتستخدمها مرات كثيرة خبثا وجبنا ضد شقيقه وجاره الغربي (المغرب) وتستخدمها في كل مرة لقمع الآراء المعارضة لسياستها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية (امازيغ القبايل) وتستخدمها ضد افراد من مواطنيها المعارضين لنظام الحكم وكان قد استخدمتها ضد الجماعات والتيارات والاحزاب اسلامية كانت ام علمانية وتحت شعار عريض كل من يعارض سلطة وحكم الجنرالات هو خائن للوطن ولتاريخ “الشهداء” !!!
وجندت الطغمة الحاكمة وكل من يعتاش من فتاتها في إشاعة هذا الفكر والتفكير التأمري في كل وسائل الاعلام المدنية منها والعسكرية وكل الفضائيات وشبكات التواصل للترويج لهذه الخرافات التامرية وكانت هذه الوسائط الاعلامية الجديدة (ثورة تامرية) تغذي وتوفر فرصا لا حدود لها للمزيد من الانتشار في صفوف عامة الناس وخاصتهم.
ومن خرافات نظام الحكم العسكري في الجزائر الترديد الببغاوي للأكذوبة الناصرية التي قالها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عن الجزائر حين نعتها (بلد المليون شهيد) “تفضيلا” لها على باقي الانظمة العربية الاخرى والتي وصفها بالرجعية والمتخلفة فوجد الجزائريون انفسهم امام اكذوبة سياسية دعائية وصدقها وكانه شعب ساذج تمر عليه المعلومة/المؤامرة بسهولة.
كان جمال عبد الناصر قد خاطب الجزائريين بعد “انفصالهم” عن فرنسا عام 1962 من باب الاشادة والمبالغة بقوله (الجزائر بلد المليون شهيد) وكان هذا الرقم “الخرافي” عملة دعائية صالحة للرواج في زمن سياسي تصارعت فيه مصالح القوى الخارجية على البلدان المستضعفة او المتخلفة، انه رقم “سياسي” لا تاريخي لكن العقلية التامرية ستنفخ فيه مرة خرى حين سيضيف الرئيس الاول للجزائر آنذاك احمد بن بلة نصف مليون للرقم السابق ويصحح بذلك “خطا” جمال عبد الناصر لينعت الجزائر ب(بلد المليون ونصف المليون شهيد) على مقاس قول العرب (راجل.. وراجل ونص).
وفي السنوات الاخيرة قفز هذا الرقم بفعل “القوة الضاربة” للنظام الحالي الى خمسة ملايين ونصف مليون “شهيد” ثم يرتفع السقف في مجلة الجيش الجزائرية في 2020 ليصل الى 13 مليون “شهيد” وربما غدا سينضاف الى هذا الرقم مجموع ما يذبح من الاغنام والابقار والماعز في القطر “الشقيق”.
ان المثير في هذه الارقام المطبوخة اعلاميا وسياسيا والمتغيرة بعد كل مرحلة انقلاب عسكري على الحكم ان النظام الحاكم لا يفصح عن أماكن مقابر الشهداء ولا عن السجلات التاريخية ولا عن الاسماء ولا عن المناطق التي ابيد سكانها.. لا شيء من ذلك غير التبجح بالأرقام وكأنها حالة مرضية في الذهنية السياسية الجزائرية علما ان سكان الجزائر حسب الوثائق الرسمية قبل الاستقلال كان يتراوح بين 9 و12 مليون نسمة.
وفي الاتجاه المعاكس لهذه الارقام “السياسية” يعتقد كريم بلقاسم احد مجاهدي الثورة الجزائرية وهو شاهد حقيقي على الثورة وعلى الحرب ان عدد الشهداء والمختفين قد لا يتجاوز 250 الف شهيد ومختفي..
ويتهكم طرف ثالث من هذه الارقام الفلكية لعدد “الشهداء” على انه ليس دالا على البطولة والشهامة وانما يدل ذلك على الشتيمة والاستصغار وكان الجزائريين كائنات حشرية تذاب “رقميا” بالمبيدات الحشرية وبالمفرقعات… وبالمقارنة مع الحروب الاخرى فلقد فقدت الفيتنام في كل حروبها ( 5 ملايين قتيل) والكمبودج (3 ملايين قتيل ) اما فرنسا فقتل منها في الحربين العالميتين (1 مليون ونصف المليون) اما روسيا العظمى فقتل منهم (20 مليون روسي) وكلهم مسجلون بأسمائهم ومعروفي القبور.
ان “العقل” السياسي الجزائري مريض بفكرة التآمر وهو ليس مستعدا لقبول علاج اخر غير التخدير الخرافي والتنويم المغناطيسي وحين يستيقظ الوعي الحقيقي عند فئة من المثقفين العقلانيين او عند النخبة السياسية النظيفة في البلد ويسعون الى اقناع منتجي الخرافة السياسة ومروجيها بخطئهم يتهمون على انهم عملاء لأعداء الوطن في الخارج (بوعلام صلصال نموذجا).
انهم مشحونون بالاحتقان ضد اشباح المؤامرة وكل الاحداث والاخبار هي رصاصات محشوة بالأوهام عن المؤامرة التي يحيكها (الاخر) ضده.. انه هوس مرضي فمثلا حين فشلت حكومة النظام العسكري في احتواء اضراب طلبة الطب في الجزائر والاستجابة لمطالبهم المتعلقة بالتكوين والمنح والتوظيف لم تجد أبواقه غضاضة في الاستعانة بالشماعة المغربية لتعليق فشلهم عليها وتمادت في اتهام المغرب في الدخول على الخط لتأزيم الاوضاع الاجتماعية وحقنها بحقنة التآمر خدمة لفرنسا واسرائيل !!!! وفي المقابل اعتبرت ابواقهم الدعائية احتجاجات طلبة الطب في المغرب على انها مشروعة ولكن حينما يتعلق الامر بالاحتجاجات التي يباشرها طلبة الجزائر اصبح الامر مؤامرة !!!!!
وفي اقصائيات كاس العالم قطر 2022 عندما فشل الفريق الوطني الجزائري في التأهيل الى كاس العالم امام الفريق الكاميروني اعتبر الاعلام الجزائري ونظام الحكم العسكري ان الامر فيه مؤامرة حيكت في دهاليز الكاف وفي دولة جارة عبر “إرشاء” الحكم واتهمت الابواق الدعائية الجزائرية اقصاء فريقها مؤامرة (دبر بليل) بدعوى ان حكم المقابلة تلقى رشوة وغيرها من الاوهام والهلوسات التي انتجها “العقل” الاعلامي الخرافي التأمري وادى تراكم الفشل والهزائم الرياضية الى حالة مرضية ساعدت على خلق استعداد لدى الجمهور الجزائري المحروم من حرية التفكير لقبول فكرة المؤامرة تم الولع بها والاكثار من اللجوء اليها عندما تراكم امامه وعليه الفشل في كل مجال حتى صار الفشل سببا من اسباب ازدياد التخلف الذي تعتبر الخرافة السياسية والسياسة التامرية جزءا لا يتجزأ منه.
ان ما يقوم به الاعلام الجزائري في هذا الشأن ما هو الا برمجة للعقول وتكريس ثقافة القطيع لبناء مواقف متسقة مع اجندات سياسية معينة ومع مؤسسات معينة (الجيش) تصنع الوهم وتصنع الاحداث الوهمية وتغير بوصلة الجمهور بسرعة الضوء وتتناول الاحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمس قاعدة عريضة من المجتمع من منظور سياسي محبوك ومخدوم لمصلحة الحكم العسكري وتفسره من زاويا مختلفة دينية واقتصادية واجتماعية مشوهة ومزيفة …
وتشرح نظرية المؤامرة الاحداث والمواقف اعتمادا على مؤامرات لا مبرر لها تحولت مع مرور التاريخ الى ايديولوجيا في الذهنية الوطنية الجزائرية وفي المجتمع المهزوم وهي تؤسس وتحلل الظواهر والاحداث بناء على نظرية المؤامرة حتى ان الظواهر الطبيعية كحرائق الغابات والحرارة والجراد تفسر لذى فئة غير قليلة من الناس وكأنها مؤامرة فصدقوها وامنوا بها !!!!
يقول باولو فرير ان محاولات تضليل عقول البشر هي اداة للقهر فما ينشره الاعلام من مواد وافكار واراء ماهي الا قوالب تم تشكيلها مسبقا للتأثير على عقول المتلقين وتوجيههم الى واقع جديد صنعته النخبة في المطبخ الاخباري والاعلامي وتجييش عدد من الوسائل الاعلامية والاعلاميين لبث هذه الاخبار الواهمة لكسب ثقة المتلقي وتعبئته ودغدغة مشاعره وتشكيل وجهات نظره اتجاه قضايا معينة.
ان الخرافة السياسية التامرية هي الاكثر انتشارا في وسائل الاتصال الحديثة وخصوصا عبر المحطات التلفزيونية الفضائية وشبكات الانترنيت وهو ما يزيد من قوة وسطوة الخرافة السياسية والخطير والاخطر في الامر ان الساسة والاعلاميين والمثقفين معظمهم يساهم في انتشار الخرافة السياسية او التفسيرات الخرافية للأحداث وكأنهم يعانون مرضا نفسيا او حالة اسقاط والتي يقصد بها الاعتقاد بوجود مخاطر ومؤامرات وشرور وراء كل حدث او تطور.
ان الفضاء الاعلامي والسياسي الذي يسبح فيه الجيران هو فضاء لا يتنفس الواقع والحقيقة وانما يعيش على حروب وهمية اعتادت على اجتراع الوهم لمداواة النقص والهروب من الواقع فيميل العقل والانسان اكثر الى تلقي الخرافة وتصديق المجهول والماورائيات … وكفانا الله شرهم وشر اوهامهم …