تعيش قضية الاعتراف الدولي بدولة فلسطين واحدةً من أكبر محطاتها التحوّلية منذ عقود؛ فمع صباح الأحد 21 شتنبر 2025 أعلنت كلٌّ من المملكة المتحدة وكندا وأستراليا اعترافها الرسمي بفلسطين، في خطوة منسَّقة قبيل انعقاد الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وأكّد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاعتراف في بيان حكومي نُشر على الموقع الرسمي للحكومة البريطانية، معتبرًا أن “اللحظة قد حانت لإحياء أمل السلام وحل الدولتين”، بينما أكّد بيان مكتب رئيس الوزراء الكندي أن أوتاوا تعترف بالدولة الفلسطينية في إطار جهد دولي منسّق للحفاظ على إمكانية حل الدولتين، في حين أعلنت كانبيرا اعترافها المتزامن مكمِّلةً تحوّلًا كبيرًا في سياستها الخارجية.
وتقاطعت هذه الإعلانات مع تغطيات كبريات الوكالات والصحف العالمية، التي رأت في الاعترافات الثلاثة إشارة ثقيلة الرمزية والسياسة معًا.
هذه الخطوة تضاف إلى موجةٍ بدأت تتعاظم منذ 2024 حين اعترفت دولٌ أوروبية مؤثِّرة مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج بشكلٍ متزامن في 28 ماي، ثم لحقتها سلوفينيا في 4 يونيو، وأعلنت أرمينيا اعترافها في 21 يونيو، كما انضمّت عدة دول كاريبية وآسيوية خلال 2024، لتتكرّس في 2025 بانتقال دولٍ غربية مركزية إلى الاعتراف العلني.
كما أن فرنسا ثبّتت منذ يوليو 2025 أنها ستُتمّ الاعتراف رسميًا خلال فعاليات الأمم المتحدة في سبتمبر، فيما أعلنت البرتغال أن الاعتراف سيصدر رسميًا اليوم الأحد قبيل الاجتماعات رفيعة المستوى.
وبهذه التطورات باتت خريطة 2025 تشير إلى أنّ قرابة ثلاثة أرباع أعضاء الأمم المتحدة، أي نحو 150 دولة، تعترف بدولة فلسطين، مع ترقّب اتساع الدائرة في الأيام المقبلة.
دلالات الاعتراف الثلاثي اليوم متعددة الأبعاد. سياسيًا، يعكس الاعتراف البريطاني تحوّلًا تاريخيًا إذا ما قورن بمواقف الحكومات السابقة التي ربطت الاعتراف بنتيجة مفاوضات نهائية؛ أمّا الآن فيُقدَّم الاعتراف بوصفه أداةً لإعادة توازن المسار السياسي، مع التشديد على أن الاعتراف لا يُعدّ مكافأةً لأي طرف مسلّح ولا يُغيّر موقف هذه الدول من مكافحة الإرهاب.
وفي السياق نفسه، تصوغ كندا وأستراليا الاعتراف ضمن هدف “إنقاذ حل الدولتين” بعد عامين من الحرب المدمّرة على غزة وتوسّع الاستيطان في الضفة الغربية، وهو ما دفع صحفًا ووكالاتٍ عالمية إلى وصف الخطوة بأنها “رمزية قوية” لكنها تحمل آثارًا عملية على مستوى التمثيل الدبلوماسي ورفع مكانة البعثات الفلسطينية في العواصم الثلاث.
بالنسبة للمشهد الأوروبي الأوسع، يزيد اعتراف لندن، مع إعلان باريس المسبق وقرار لشبونة اليوم، احتمالات تشكّل كتلة أوروبية أكثر اتساقًا حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعد أن كان الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي يُضعف أثر كل خطوةٍ منفردة. ومن المرجّح أن تُترجم الاعترافات إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، وتوقيع أطر تعاون ثنائية مع دولة فلسطين، وإسناد تحرّكاتها في المنظومات الدولية، حتى مع استمرار التعقيدات داخل مجلس الأمن.
ويؤكد مراقبون أن أي أثر ملموس لهذه الاعترافات على الأرض يظلّ مشروطًا بوقفٍ مستدامٍ لإطلاق النار في غزة، ووقف خطوات الضمّ الفعلي في الضفة، وإصلاح منظومة الحكم الفلسطيني بما يسمح بإعادة بناء المؤسسات وإجراء انتخابات، وهي نقاطٌ كرّرتها البيانات الحكومية المُعلنة اليوم.
وتاريخيًا، كانت أغلبية الدول العربية والإسلامية ودول الجنوب العالمي قد اعترفت بفلسطين منذ عقود، لكنّ انتقال دولٍ غربية كبرى من موقع “الاعتراف لاحقًا” إلى “الاعتراف الآن” يُعدّ تطوّرًا نوعيًا في البُعد الرمزي والقانوني، إذ يرفع كلفة تجاهل المسار السياسي ويمنح اعترافًا سياديًا أوسع بتمثيل الفلسطينيين دوليًا.
كما أن تناغم الاعترافات مع توقيت اجتماعات الأمم المتحدة يمنحها زخمًا إعلاميًا ودبلوماسيًا، ويضغط باتجاه نقاشاتٍ أكثر صراحة حول آليات تطبيق حل الدولتين على الأرض، بما يشمل وقف الاستيطان وترتيبات أمنية متبادلة وضمانات اقتصادية وإعادة إعمار شاملة. ومع أنّ الاعتراف بحد ذاته لا يحلّ التعقيدات المتراكمة، إلا أنه يفتح نافذةً دوليةً جديدة يمكن البناء عليها إذا ما تلاها مسار تفاوضي جاد برعايةٍ متعددة الأطراف.
عمليًا، يُتوقَّع أن تُستكمل اليوم أيضًا الخطوة البرتغالية وفق بيان خارجيتها، وأن تعلن فرنسا صيغة الاعتراف من على منبر الأمم المتحدة خلال الأيام المقبلة، ما قد يرفع العدد الإجمالي للدول المُعترِفة ويعطي دفعة إضافية لتحويل الاعترافات إلى مكتسباتٍ مؤسسية للفلسطينيين.
وفي المحصلة، فإن اعتراف المملكة المتحدة وكندا وأستراليا اليوم يُثبّت انتقال الاعتراف بالدولة الفلسطينية من “هامش الجنوب العالمي” إلى قلب العواصم الغربية، ويرسم مسارًا قد تتبعه عواصم أخرى، فيما تبقى الاختبارات الحقيقية معلّقة على القدرة على ترجمة هذا الاعتراف إلى إجراءاتٍ واقعية تدعم الحقوق، وتؤمّن الأمن المتبادل، وتعيد بعث أفقٍ سياسي طال انتظاره.
التعاليق (0)