أكادير : تجليات الإبداع والتجديد في الأدب العربي بسوس، عنوان كتاب جديد للدكتور المهدي بن محمد السعيدي

IMG 20241226 WA0220 ثقافية

صدر ضمن سلسلة الدراسات الفكرية، الإصدار الأول بعنوان: تجليات الابداع والتجديد في الأدب العربي بسوس، دراسة لأنواع الإبداع الأدبي وأعلامه خلال قرن ونصف (1276 -1430 هـ/1860-2010م)، للأستاذ الدكتور المهدي بن محمد السعيدي، أستاذ التراث المغربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأگادير، وهذه السلسلة مخصصة للدراسات والأبحاث التي حررها صاحبها على مدى 30 سنة، في موضوعات ومجالات منوعة من الأدب المغربي والتراث المخطوط والتراث الأمازيغي، والتاريخ المحلي والوطني، ودراسة الأعلام وغير ذلك، يقع الكتاب الصادر عن مطبعة صوم برانت بأگادير في 266 صفحة من القطع المتوسط.

ويضم مجموعة من الدراسات والأبحاث حول الأدب العربي الذي نشأ بمنطقة سوس منذ عدة قرون، معبرا عن ارتباط فقهائها وعلمائها بالعربية، بالرغم من كون الأمازيغية السوسية لغتهم الأم، فتعلّقوا بالعربية باعتبارها لغة الدين والحضارة الإسلامية، دون إهمال لغتهم المحلية، ولم يقنعوا بإتقان العربية وقواعدها نحوها ومعجمها وصرفها، بل تجاوزوا ذلك إلى الولع بآدابها، دراسة واستيعابا ثم تفننا وإبداعا، مجاراة لإنتاج المشارقة والأندلسيين، فنظموا في مختلف الأغراض، ونثروا في عديد المقاصد، فتحصل من كل ذلك عبر قرون من الإنتاج آلاف المجلدات من الأشعار والمنثورات، أبدعها آلاف الأدباء في مختلف الجهات والعصور.

غير أن هذا الإنتاج الضخم لم يجمع كله، ولم يحقق ولم يدرس، ولم يترجم لكل مبدعيه بما يشفي الغليل، فبقي الأدب المغربي بعد تأسيس الجامعة المغربية بما ينيف على 60 سنة، مجهولا في الغالب، محفوظا في الدواوين والكنانيش والأوراق المخطوطة والمطبوعة أحيانا، مما يجعل الأحكام العامة على هذا الأدب، من حيث طبيعته وأنواعه وأغراضه وقيمته الفنية نسبية، لأن الدارسين لم يستوعبوا أغلبية الإنتاج بالاكتشاف والتحقيق والدراسة، مما يجعل درايتهم بعمومه محدودة، ولعل أبرز مثال على ذلك الكتب المؤلفة في تاريخ الادب المغربي، فلا تكاد تنيف على العشرة، مما يبرز إدراك النقاد والباحثين أننا لم نصل بعد في مسيرة اكتشاف الأدب المغربي ودراسته، إلى مرحلة تؤهلنا لكتابة تاريخ أدبي مغربي جامع منصف شامل، يتجاوز النخبوية الزمانية أو المكانية التي اتسمت بها المؤلفات المنجزة حتى الآن.

وإسهاما في دراسة هذا الأدب الجهوي السوسي، انكب المؤلف في كتابه هذا على أعمال بعض أعلامه كالقاضي امحمد بن محمد الكثيري ومحمد الضوء الصاوي السباعي وامحمد العثماني، ورشيد المصلوت، ومحمد بن عبد الله الروداني، ومحمد بن أحمد العتيق السليماني الإلغي وأحمد حميتي الوجاني وغيرهم، وعلى ما أبدعوا فيه من فنون كالشعر والمقالة والسيرة الذاتية والرسالة والرحلة منظومة ومنثورة، إضافة إلى الإلمام بالتفاعل الاجتماعي للأدب من خلال الأسر العلمية والأندية الأدبية والظرف والفكاهة، والتواصل مع أدباء الصحراء خاصة.

ويركز الكتاب من خلال استعراض هذه الفنون الأدبية وأعلامها على السيرورة التاريخية، والتحولات المتوالية التي شهدها الأدب العربي في سوس، خلال 150 سنة، امتدت من مرحلة ما قبل الاستعمار إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، وقصده بذلك تتبع مواكبة الأدب للتقلبات السياسية، خاصة سيطرة الاستعمار على المغرب، وعمله على تغيير مساره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، مع ما واكب ذلك من نهوض المغاربة لمقاومته ودفع ضرره بمختلف الوسائل المتاحة، ومن بينها الأدب بفنونه المختلفة، وقد استمرت هذه التحولات بعد الاستقلال، بسبب التيارات الفكرية التي سادت بلاد الإسلام والعالم أجمع وتسربها إلى المغرب، فكانت ظاهرة في إبداع الشعراء وإنتاجات الناثرين، متخللة أفكارهم ورؤاهم وأساليبهم في التعبير.

لقد كان الأدباء السوسيون في أواخر القرن الرابع عشر الجهري يعبرون من خلال نمط فكري عتيق ناشئ في خضم العزلة المحلية والوطنية، وبعد عن تطورات العصور الحديثة الاوربية، حتى دهم الاستعمار على البلاد والعباد، وتحكم في مقدراتها، وصار يدبر أمورها بما ينفع سياسته واقتصاده وفكره، وقد أدى تدخله إلى انفتاح المغرب بعد انعزال، وتواصله مع العالم المحيط به وتأثره بالتيارات الفكرية والتصورات العقدية المختلفة الوافدة عليه شرقا وغربا، وخاصة التيارات الأدبية، فتأثر الأدباء السوسيون كما المغاربة بالتوجهات الأدبية الوافدة المزدهرة آنذاك في المشرق العربي خاصة اتجاه البعث والإحياء في الشعر، والأساليب المسترسلة في الكتابة النثرية بعيدا عن التكلف والتزام السجع، التي أسهمت الصحافة في ترويجها، حين أضحت وسبلة لمخاطبة عموم الناس، فخرج الأدباء من أنديتهم المغلقة، وأضافوا إلى أشعارهم الإخوانية وكتاباتهم الترسلية نظم الأشعار في نضال ضد الاستعمار ونشر الوعي والدعوة إلى الإصلاح، وتحرير المقالات حول تراث المغرب وأدبه وتاريخه وأعلامه، كما اهتموا بالتعبير عن ذواتهم، وتخليد آمالهم وآلامهم، وتقييد مجريات حياتهم ومواقفهم وآرائهم، ورحلاتهم السياحية داخلية وخارجية والحجازية لقضاء مناسك الحج.

إلى ذلك كان الأدب ظاهرة اجتماعية في سوس، فلم يكن المبدعون أناسا منعزلين في صوامعهم، منقطعين عن محيطهم، بل كانوا يتواصلون مع أقرانهم في سوس، حيث صار الأدب ظاهرة أسرية في الأسر العلمية، التي صار النبوغ العلمي لديها تراثا متوارثا تتسلمه الأجيال الجديدة من السابقين، وعززت نهضة الأدب العربي في البيئة الأمازيغية القحة النوادي الأدبية الناشئة في بحبوحة المدارس العتيقة، التي كان شيوخها يعدون الأدب مجالا لترقية الفكر، وسمو الأخلاق، واتساع المدارك والآفاق، فصارت المساجلات تترى والمناسبات تغتنم، والإبداعات تتوالى، وسنح للسوسيين لقاء الأدباء الصحراويين والحضريين، فراسلوهم وساجلوهم، وتعاطوا معهم كؤوس الأدب مترعة عذبة فواحة، مما أسهم في الحركة الأدبية المسترسلة التي شهدها المغرب عبر العصور حتى أيامنا الحاضرة هذه.

ويشير المؤلف إلى أن هذا الأدب في حاجة ملحة لمواصلة الجهود المضنية من أجل جمعه وتحقيقه، ونشره والتعريف به، وترويجه بين الأجيال الناشئة، ليكون مجليا لفكر المغاربة وثقافتهم وقبل ذلك لعقيدتهم وإيمانهم، في زمن صارت العولمة وثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، وعادات التقليد الأعمى والاتباع الغبي، تسري في الشعوب سريان الماء في الأرض العطشى الجافّة، جالبة معها التفاهة والجهل والسخف، الذي صار يطغى شيئا فشيئا على العقول والقلوب معا، ليقطع صلتها بماضيها وتراثها وأصالتها، ويسقطها صريعة الأدواء والآفات التي سرعان ما ستأتي عليها، إن لم يفزع لإنقاذها العلماء والمفكرون المصلحون، النّاهلون من معين الوحي، العارفون كيف يوضع الهِناءُ مواضع النُّقَب، وكيف تصان الأمم باستثمار تراثها وأصالتها، لتستمد منهما ما يجعلها قوية صامدة أمام زوابع المسخ والتلبيس، إذ إن التراث والأصالة معيار القوة، فمنهما تتزود الشعوب ما يجعلها ملتزمة بالأخلاق القويمة، والقيم السديدة، التي لا يتحقق أي تقدم أو تطور بدونها، ذلك أن تلك الأخلاق والقيم هي التي تبني الإنسان الصالح الأمين، الذي لا تنفع بفقدانه تقنية ولا تطور، ولا تنتج معامل ولا مصانع ولا مختبرات، ولا يغني ذكاء آلي، ولا برمجيات متطورة، هذا وإن مما يسهم في تكوين هذا الانسان الصالح، العقيدة الصحيحة والتدين النافع، ثم ترقية السلوك والأخلاق، ويلح المؤلف على أن الأدب عمدة ذلك لأنه حامل لواء القيم والهوية وخادم التراث، ومستودع وجدان الشعوب وعقائدها، وكل أمة لا تولي أدبها وأدباءها ما ينبغي من اهتبال وتقدير، فبشرها بالزوال السريع، والتلاشي المريع، وها هي الأمم المتقدمة في المدنية الغربية، تهتم بأدبائها، فتنشر عنهم الكتب والمؤلفات وتنجز الدراسات والأعلام، وبضرب المؤلف المثال بالإنجليز والأمريكان الذين مازالوا كلفين بشكسبير ومسرحياته وأشعاره، وقد أرمس قبل أزيد من 400 سنة، وبجورج تشاتبرتون وقد مات قبله بقرنين، ومازالت الجرائد والمجلات والكتب والإصدارات تحتفي بهاربر لي، وتوني موريسون، ووالت ويتمان، وجون ميلتون، وتشارلز ديكنز، وإيرنيست همنغواي، وغيرهم كثير… لما في أعمالهم من التعبير عن قيم الغرب الدينية وتراثه اليوناني الإغريقي، وقيامها بربط شعوبهم بهويتهم وتاريخهم الثقافي والأدبي، ولأن الأدب في تصورهم أساس التعليم، ومعزز اهتمام الأفراد والمجتمعات عندهم بتراثهم، بمحاولة فهمه واستثماره في التعامل مع الواقع ومشاكله، إضافة إلى كون الأدب من أسس التواصل الاجتماعي والتفاهم وبناء الروابط الاجتماعية.

وانطلاقا من ذلك يشير المؤلف إلى أن أعين بعض من يطالبون بإهمال أدبنا المغربي عميت عن كل هذه الأسباب، عندما عدوا الاشتغال بالأدب المغربي ضربا من البطالة، وتزجية الأوقات بما لا يفيد، وما نقموا منه إلا أنه سجلّ قيم المغاربة، وديوان أفكارهم وعقيدهم، وسِفْر دينهم وسلوكهم، وتقييد مفاخرهم، فيريد المرجفون منهم تجنبه وإهماله، ظنا أن في ذلك فائدة ومزية، وما تم إلا جناية ما بعدها جناية على الأجيال، ويعلل الكاتب ذلك بكون الأدب المغربي غنيا بفنونه وموضوعاته وأغراضه، وبتنوعه اللغوي الثري، وبقيمه السامية القويمة، وهذا ما يجعله – برأي الكاتب – مما ينبغي أن تعقد لدراسته الندوات والمؤتمرات، وتصدر حوله المؤلفات، وتنظم الجوائز وتمنح المكافآت، أسوة بما لدى الأمم الغربية التي يتخذها القوم مثالا يحتذى، وساق المؤلف أمثلة لذلك من الولايات المتحدة الأمريكية التي تمنح جوائز خاصة بالأدب الأمريكي اعتزازا بأدبها وتكريما لمبدعيها، من أشهرها جائزة الكتاب الوطني، وجائزة بوليتزر للأدب، وجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتاب، وجائزة همنغواي للرواية، وجائزة القصة الأمريكية، وجائزة فولكنر للرواية، وجائزة روبرت فروست، وجائزة ريس ويدرسبون للكتاب، وجائزة انسفيلد وولف.. وغيرها، ومقابل ذلك تساءل المؤلف عن أسباب إهمال الأدب المغربي وتهميشه؟ بل حذفه المقررات الدراسية في الجامعة المغربية وتعويضه – حسب تعبيره – بأمشاج وأخلاط لا تسمن ولا تغني من جوع.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً