أشرت في تدوينة سابقة إلى الوضعية التي يعيشها فن ترويسا في ظل متغيرات مست العديد من ثوابت حياتنا كمغاربة، وأمازيغ على وجه الخصوص . وقد خلصت في التدوينة إلى أن ترويسا قد دخلت متاهة في غياب ضوابط فنية واندحار الذوق السليم .
في هذه المقالة سأحاول أن أضع الأصبع على مواطن الخلل ، وأسباب الإسفاف الذي مس هذا النمط الفني الامازيغي الاصيل . ولا أدعي ها هنا أني امتلك الحقيقة وأوزع الوصايا وإنما اتكلم من موقع عاشق ومهتم بهذا الفن الثراتي الذي يسأئلنا وضعه جميعا كمهتمين ودارسين ونقاد وفنانين جميعا .
فن ترويسا الذي نشأ وترعرع في ظل شروط مجتمعية هيأت له الارضية ليسمو في سماء الفن الراقي ، وبوأت الرايس مكانة عالية في المجتمع الامازيغي إذ حظي بالتقدير والاحترام عند الخاصة والعامة . لكن واقع ترويسا في العقدين الاخيرين يطرح أكثر من سؤال ، ويشيء الى أزمة ادخلته الى متاهة جردته من سحره وهويته ورمت به تحت أحضان اللامعنى .
وأعتقد أن أسبابا ذاتية وموضوعية تضافرت لتاثر سلبا على هذا الفن الأصيل ، وأجمل ذلك في :
- لعبت وسائل التواصل المرئية خصوصا (التلفزة )منذ اواخر الثمانينيات دورا بارزا في افساد الأذواق ، وحولت المتلقى من سامع متيقظ الى مشاهد مفتون ، ففن ترويسا ،تاريخيا، لعب فيه النص دورا مركزيا لذلك وجدنا الروايس يختارون بعناية كبيرة النصوص ذات محتوى هادف تحمل معها رسائل وخطاب في قالب فني اصيل ،لكن مع ظهور التلفاز وانتشاره الواسع، أصبح المتلقى مهتما بالصورة والحركة وهنا ستظهر نوع من الأعمال الفنية اعطت دورا أكبر للقوالب الفنية (الموسيقى) والرقص كأدوات تعبيرية حيزا مهما مم أخفى دور النص الذي اصبح ثانويا الشيء الذي سمح بسيادة خطاب أبعد من الشعر و النظم الجميل المعهود سابقا . وبعبارة أخرى انتقلنا من ثقافة الاذن بخصوصياتها الجمالية الى ثقافة العين وما رافق ذلك من ميوعة في الكثير من الاحيان .
لعبت شركات الانتاج دورا محوريا في ضمان استمرار فن ترويسا كما كانت دائما سدا منيعا وحارسا امينا على مستقبلها، لذلك كان من الصعب أن يلج كل من هب ودب دور التسجيل عكس مايقع اليوم اذ يكفي أن تتحمل مصاريف التسجيل لتصبح رايسا دون عناء ، وفي عهد شركات الانتاج كانت المنافسة مشتعلة بين الفنانين لاكتساح السوق الفني واستمالة المتلقي ،قد يقول قائل بأن هذه الشركات ،الى حد ما، لها يد في ضعف ترويسا وأجيب بالايجاب ولكن دورها الإيجابي أكبر وغطى على سلبياتها .
ظهور فئة من الجمهور لايبالي بثراته الثقافي وانصرف ليشجع التفاهة الشيء الذي نفخ في روح أشكال غنائية برزت هنا وهالك ولا صلة لها بالأمازيغية ، فالساحة الفنية تعج بأسماء سقطوا سهوا على ميدان ترويسا وعاثوا فسادا في الذوق وعملوا على تشويه الأصالة باسم التجديد .
وكما اسلفت ،أصبح للعين دور أكبر من الأذن في التلقي لذلك وجدنا تعبيرات جسدية مغرقة في ايحاءات ممسوخة بعيدة عن الاخلاق الأمازيغية مما نفر العديد من عشاق ترويسا في صورها الأصلية فاصبحوا أسرى للقديم .
تشابه الاصوات جراء استخدام تقنيات عالية في عملية التسجيل سهلت مأمورية الأصوات غير الطروبة التي ولجت الميدان وتولد عن ذلك كثرة فناني الأستوديو وفقر في فئة فناني أسايس الذين صقلوا مواهبهم بالتدربج وفق شروط خاصة حكمت اصلا في مسار صنع الفنان .
الطفرة النوعية في وسائل التواصل ساهمت في صنع أشباه فنانين فضوليين على الميدان واستفاد الوضع كذلك من غياب المدارس الفنية التي تخرجت منها الأصوات الفنية بعد مسار شاق في سبيل اكتساب أصول المهنة.
بقلم : محمد ايت بن علي
التعاليق (0)