شكلت معارف ابن خلدون المتنوعة في كثير من العلوم، عاملا حاسما في القيمة العلمية والمعرفية لأفكاره، فذاع صيته في أمصار العالم وحقب التاريخ. كيف لا تكون له هذه القيمة العلمية وهو مؤسس علم الاجتماع وأول من تحدث عن فلسفة التاريخ. بدأ ابن خلدون مساره المعرفي بحفظ القرآن الكريم، ثم درس علوم الحديث والشريعة وقواعد اللغة العربية والشعر، كما اهتم بدراسة الفلسفة التي كانت منتشرة في العصر الأندلسي، حيث تأثر بثقافة الإغريق عامة وبكتابات أرسطو بشكل خاص. وكان لمُعلمه الآبلي الأثر الواضح في اتباع ابن خلدون منهج شيخه الذي يتمثل في الابتعاد عن الدراسة النظرية، واتِّباع الأسلوب العلمي.
هو أول من وضع الأسس الحديثة لعلم الاجتماع الذي سماه “علم العمران البشري”، وتوصل إلى نظريات باهرة حول قوانين العمران ونظرية العصبية وبناء الدولة وأطوارها و”عمارتها” وسقوطها، وسبقت هذه الآراء والنظريات ما توصل إليه مشاهير علماء الاجتماع بعد النهضة الحديثة.
يتذكره البعض بمقولته الشهيرة “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، ويستحضره البعض الآخر من خلال قوله إن “فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتُشَد إليه الركائب والرِّحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجُهَّال”.
تكمن قوة أفكار ابن خلدون وقيمة نظرياته العلمية في كونه أول من تحدث عن فلسفة التاريخ، وقارن الحضارات بالبشر حيث اعتبر أن لها أعمار مثل البشر. وقال بهذا الخصوص، إن الحضارة تولد ولها طفولة مبكرة، ولها مراهقة، ولها فتوة وشباب ثم الشيخوخة ثم إلى السقوط.
فصَّل ابن خلدون أهم أفكاره العلمية في كتابه “العبر” الذي يقع في حوالي 4000 صفحة. كتب المقدمة التي اشتهرت كثيرا في 4 سنوات، فسر فيها القوانين التي تتحكم في التاريخ والعوامل المؤثرة فيه وكل ما هو يتعلق بتفسير التاريخ. وقد أشار معظم الباحثين أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع بدون منازع، حيث استطاع أن يسبق العلماء المؤسسين لعلم الاجتماع الغربي المعاصر بسنوات طويلة، ومنهم أوغست كونت، وماكس فيبر، ودوركهايم، وسبينسر. ويرى المؤرخ البريطاني -تويبني- أن تفوق ابن خلدون ظهر بشكل كبير في مقدمته المشهورة لما تتميز به من عمق في البحث، وقوة في التفكير، لا سيّما أنّه استطاع أن يكتب عن علم العمران البشري بطريقة لا يمكن التمييز بينها وبين فن التاريخ. ففهم القواعد والأصول لا يتم إلا بعلم العمران، حيث يُعرَف عن عِلمَي العمران والتاريخ تقاطعهما في الكثير من المناحي، كما هو أمر تقاطع المنطق والفلسفة. أطلق ابن خلدون مصطلح العمران البشري للدلالة على علم الاجتماع، حيث يُعرَّف علم الاجتماع بأنّه علم يختص بدراسة الحياة الاجتماعية والسلوك الإنساني داخل الجماعات الإنسانية، وهو بالضبط ما قام به ابن خلدون.
من أبرز المفاهيم الخاصة بعلم العمران البشري والتي تقود لعلم الاجتماع، مفهوم “العمران” وهو فنٌّ حديث الاكتشاف، ومفهوم “الجاه” الذي يظهر عند صاحب المال والسلطة. ويعكس مفهوم “العصبية” الذي أبدع فيه ابن خلدون، عمق أفكاره وقوة ملاحظته، ويقصد بها الرابطة التي تؤدي إلى تماسك الجماعات البشرية، ومرادفها في علم الاجتماع الحديث هو المواطنة، أو التكافل، أو التماسك الاجتماعي. تحدث ابن خلدون عن مفاهيم أخرى متّصلة بهذا العلم كمفاهيم البدو، والبدواة، والتمدّن وغيرها من المصطلحات. هكذا يكون ابن خلدون قد ساهم بشكل كبير في إغناء علم الاجتماع بالمصطلحات والمفاهيم التي ساهمت في تطوير هذا العلم الإنساني بامتياز.
ويشكل تقسيم ابن خلدون للعلوم إلى علوم نقلية وعلوم عقلية مع ربطها بنوع آخر من العلوم أسماها العلوم المساندة، ثورة حقيقية في مجال العلوم الإنسانية. العلوم النقليّة، حسب مؤسس علم الاجتماع، هي العلوم التي اكتسبها الإنسان عن طريق الخبر، دون إعمال منه للعقل إلا في حالات الفروع المتصلة بالأصول، وعادة ما يكون مصدرها شرعي كعلم التفسير، وعلم القراءات، وعلوم الحديث، وعلم أصول الفقه، والتوحيد، والبيان، وعلم الأدب. أمّا ثانيهما فهي العلوم العقليّة وهي العلوم التي اكتسبها الإنسان واهتدى لها عن طريق عقله، كعلم المنطق، والعلم الطبيعي والعلم الإلهي -ما وراء الطبيعة-، وعلم النظر في المقادير كالهندسة، والرياضيات، والفلك. ورتّب ابن خلدون العلوم حسب أهميتها عند الإنسان على النحو الآتي: العلوم الدينيّة كعلوم القرآن الكريم والحديث الشريف، العلوم العقليّة مثل العلم الطبيعي، العلوم المساندة للعلوم الشرعيّة، مثل اللغة والنحو والبلاغة، ثم العلوم المساندة للعلوم العقليّة مثل علم المنطق.
اعتمد ابن خلدون في تحليل الظواهر الاجتماعية على منهج معرفة الروابط بين الأسباب والمسببات، لذلك تُعد طريقته طريقة أصيلة وفريدة في دراسة البحوث الاجتماعية، حيث يقوم منهجه على الملاحظة والتحليل والتفكير، ثم التوصل إلى النتيجة. وعلى الرغم من كون ما وضعه ابن خلدون من قوانين وأفكار مصدرها معاصرته لبعض الأقوام لفترة ما، إلّا أنها تُعتبر قوانين ذات أساس متين يمكن الاستعانة بها في كل زمان ومكان نظراً لاتّباعه المنهج السالف ذكره، ومقارنة ما عاصر بما عرفه من أخبار الأقوام السالفة، فيما يُعدّ منهجا الاستقراء والاستنباط خير مثال على ما وضعه ابن خلدون من أدوات يستعان بها في عملية البحث هذه.
تُعدّ منهجيّة ابن خلدون في تحليل الظواهر الاقتصادية مماثلة لطريقته في تحليل الظواهر الاجتماعية، مع استعماله للأدوات المستخدمة في القضايا الاجتماعية ذاتها. إلّا أنّ هذا لا يقلل من أهميّة النتائج التي توصل لها في دراسة الظواهر الاقتصادية، لا سيّما أنّ الأدوات المستخدمة في دراسة هذه الظواهر، لم يتمّ التعرُف عليها وتطويرها سوى خلال القرنين الماضيين فقط، فيما تُلخَّص الأدوات التي استخدمها ابن خلدون في تحليل الظواهر الاقتصادية -تبعاً لما جاء في مقدمته- بالآتي: دراسة الوقائع الاجتماعية، والروابط القائمة بين الأحداث الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية، وهو ما يسمى بارتباط الأهداف التاريخية، ربط السلوك الإنساني والظواهر الاقتصادية بالبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان، توضيح أثر البيئة من حيث الوضع الاقتصادي، وتوفر الموارد الطبيعية وطبيعة الجغرافيا وتأثيرها على سلوك الإنسان الاقتصادي، وأخيرا درجة التخلُف والتقدُم الاقتصادي.
اعتمد ابن خلدون على التحليل النّظري في وضع القواعد التي تحكُم الظواهر الاقتصادية، بحيث يبدأ بالاستقراء، ثم التحليل، ثم استنباط القاعدة العامة. ويُعتبر منهج ابن خلدون هو أساس نظريته الاقتصادية، والذي تطّور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من قِبل المدرستين الكلاسيكيّة والنيوكلاسيكيّة، حيث ظهر -من خلال التسلسل التاريخي للدراسات الاقتصادية- أنّ ابن خلدون هو أول من أبرز ارتباط الأهداف التاريخية وتطورها، كما أنَّه أوَّل من أكَّد ارتباط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
إذا كان الإنتاج العلمي هو نتاج تراكم المعارف الإنسانية، فإننا نقول إن ما وصلت إليه العلوم الاجتماعية والعلوم التاريخية من تطور، يعود النصيب الأوفر منها إلى ابداعات ابن خلدون في القرن الرابع عشر.
سعيد الغماز