تشكل الثورة الرقمية عنصرا أساسيا في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يتطور في وقتنا الراهن. ومن بين اختراعات عصر الذكاء الاصطناعي ما يعرف بالروبوتات أي آلات على شكل إنسان ذكية وذاتية الحركة، وهو ما يمكن توصيفه ب”الإنسان الآلي”. استنادا إلى هذا المفهوم للروبوت، وبعودتنا لتاريخ تطور الآلات، يمكننا القول إن أول روبوت على شكل إنسان عرفته البشرية كان من صنع عالِم العصر الذهبي الإسلامي أبو العز الجَزَرِي في القرن 12 ميلادي. كان هذا الروبوت، الذي أطلق عليه الجزري اسم “نافورة الطاووس”، على شكل إنسان فوق رأسه طائر ويحمل في يده إبريقا مليئا بالماء، وفي اليد الأخرى منشفة. ولما يحين وقت الصلاة يُصفِّر الطائر ويتقدم الروبوت إلى الأمام ليصُب الماء للمتوضئ بكمية معينة، ثم يضع المنشفة تحت تصرفه قبل أن يعود إلى مكانه. ظل هذا الإنسان ذاتي الحركة أو “روبوت الصلاة” محط تساؤل للكثير من العلماء عن كيفية معرفته بأوقات الصلاة. فروبوت الجزري يجمع بين الإنسان ذاتي الحركة والذكاء المتمثل في معرفة أوقات الصلاة، وهما العنصران المشكلان لروبوتات العصر الحالي أي الأتمتة والذكاء الاصطناعي.
وضع العلماء الكثير من الفرضيات التي تناقش كيفية معرفة روبوت الجزري بأوقات الصلاة، وكيفية تحركه. ومن أبرز هذه النظريات اعتماده على أشعة الشمس التي تدخل إلى الغرفة الموجود فيها، كما أن تبخر القليل من الماء كاف لتَحرك مفاصل الروبوت، ولحثه على التحرك إلى الأمام أو الخلف بناءً على تحكم عدة موازين دقيقة موضوعة داخل هذا الجسم.
انتظرت البشرية سنة 1954 ليقوم المخترع الأمريكي -جورج ديفول- بتطوير فكرة الجزري ويصنع ثاني روبوت في تاريخ البشرية ويسميه “أنيميت” باستعمال تقنيات القرن العشرين الذي شهد اختراع الترانزستور وتطور علوم الإلكترونيك والإعلاميات. ولذلك يصف بعض المتخصصين في تاريخ العلوم، الجزري بأنه “أبو الإنسان الآلي” وديفول “أول مخترع للروبوت”. لكن في نظر آخرين يظل الجزري أول من اخترع الروبوت في العالم.
الجزري مهندس في الميكانيكا ومن أهم المخترعين في عصره، وكانت اختراعاته ملهمة للكثير من الآلات التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية. صمم الجزري الكثير من الآلات التي كانت لها أهمية كبيرة في عصره، وجمع كل أعماله في كتابه الشهير المزود برسومات توضيحية “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحِيَّل” الذي كان نتيجة 25 سنة من الدراسة والبحث والتجارب. وصف الجزري في كتابه 50 جهازاً وآلة بتفصيل متناهي، وصنفها في 6 فئات أساسية مختلفة حسب الاستخدام وطريقة الصنع. وباستعمال لغة عربية بسيطة وسهلة الفهم، ورسومات توضيحية ملونة، شرح الجزري دراساته وأبحاثه عن الساعات والآلات الرافعة للماء والأثقال، بطريقة تُسهل على القارئ فهم أي شيء متعلق بالجهاز. كانت أعمال الجزري أحد الأسس العلمية في نهضة الحضارة العربية الإسلامية، التي انتقلت إلى أوروبا عبر ترجمة كتبه إلى العديد من اللغات، فيكون بذلك قد أسهم في الكثير من الاختراعات التي عرفتها النهضة الغربية. من تلك الأعمال آلات رفع الماء حيث كانت هذه الآلات معقدة وتدور بقوة دفع الحيوانات وليس بقوة الماء، فكان الجزري أول من وضع أسس الاستفادة من الطاقة الكامنة في دوران المياه بشكل عملي. وقد شكل هذا الاختراع ثورة هندسية وعلمية كبيرة في عصره، لأنها ساهمت بشكل كبير في تسهيل عملية رفع الماء وجعلتها أكثر يسرا ونجاعة. من بين اختراعاته كذلك ساعات مائية ذات نظام تنبيه ذاتي، وصمامات تحويل، وأنظمت تحكم ذاتي، ومضخة ذات اسطوانتين متقابلتين وهي تقابل حاليا المضخات الماصة والكابسة. من بين اختراعاته أيضا نواعير رفع الماء التي ترفع الماء عن طريق الاستفادة من الطاقة المتوفرة في التيار الجاري في الأنهار.
وتعتبر ساعة الفيل الضخمة أهم اختراعاته ومصدر عزه وفخره. ساعة الفيل تعمل بنظام مائي وصُممت على شكل فيل يحمل على ظهره شخصياتا وأشكالا من 6 حضارات مختلفة (العربية والمصرية والإفريقية والإغريقية والصينية والهندية)، وتُصدر أصواتاً في كل نصف ساعة، بالإضافة إلى اختراع عمود الكامات الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام اعتماداً على الحركة الذاتية، والتي تعتبر البذرة الأولى في علوم المحركات ومضخات المياه الدافعة. كما قام الجزري بصناعة ساعة مائية لها ذراعان تشيران إلى الوقت وهو ما شكل تطورا علميا كبيرا في صناعة الساعات في عصره.
قيمة الأعمال والابتكارات التي قام بها الجزري، ودورها في اختراعات النهضة الأوروبية، جعلت أعماله تُعرض في أشهر متاحف العالم مثل متحف الباب العالي في إسطنبول ومتحف اللوفر الفرنسي بباريس ومتحف الفنون في بوسطن الأمريكية، بالإضافة إلى اهتمام الكثير من المؤسسات بطباعة كتابه الشهير تحت عنوان “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” كجامعة أوكسفورد ومعهد التراث العلمي العربي. وذلك تقديراً منهم لإنجازاته العلمية السابقة لوقتها والتي أسهمت في دفع البشرية نحو عصر الآلات والصناعة والروبوتات.
سعيد الغماز