سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
“ الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين”
الفيلسوف الكندي
في الحلقة السابقة، تحدثنا عن منهج ديكارت في الاستعمال الجيد لأداة العقل. وسيقوم الفيلسوف الفرنسي بتطبيق هذا المنهج على نفسه وهو ما سيجعله يكتشف ما يسمى بالكوجيطو الديكارتي “أنا أفكر إذا أنا موجود”.
تطبيق ديكارت منهجه الجديد على نفسه، جعله يطرح الكثير من الأسئلة ويشك في كل شيء. ربما يكون المقصود من ذلك هو إعادة ترتيب طريقة العقل في التفكير، لكيلا يقع في محظور الفكر الكنسي الذي كان سائدا طيلة العصور الوسطى من التاريخ الأوروبي. تطرق ديكارت، في هذا الصدد، إلى مثال الملعقة التي تبدو لنا منكسرة في كأس نصف مملوء بالماء، وهو المثال الذي تطرق له الكثير من الفلاسفة. لكن ديكارت مضى أبعد من هؤلاء في تأمله لهذه الملعقة. فقد اعتبر أن الحواس التي جعلتنا نرى أن الملعقة منكسرة، هي حواس خدَّاعة ولا ثقة فيها. وبالتالي كل ما يصلنا عن طريق الحواس يجب أن نشك فيه ونتساءل عن مدى صدقيته. بل أكثر من ذلك، يعتبر ديكارت أن شكل الملعقة في حالتها الطبيعية يجب أن نشك فيها أيضا، فلربما خدعتنا الحواس مرة أخرى وصوَّرت لنا الملعقة في صفة غير حقيقية.
في هذا الصدد، يمكن لنا أن نسرد حادثة وقعت لفيلسوف صيني، حيث رأى في حلمه أنه فراشة، وعاش حياته كلها على شكل فراشة تتجول في الحقول وتعيش حياة عادية مع الفراشات. لكنه حين استيقظ من حلمه وجد نفسه أنه إنسان ثم تساءل: هل أنا إنسان كان يحلم أنه فراشة، أم أنني فراشة تحلم الآن أني إنسان؟
الأسئلة الكثيرة التي يطرحها ديكارت على نفسه، جعلت الشكوك تُحاصره في كل جانب، فهو يشك في حواسه، وفي الحياة كحياة، وفي أفكاره، وفي وجود العالم الخارجي، بل يشك حتى في صدق الرياضيات وفي صدقية نتائجها وحتى في وجوده هو نفسه. وفي خضم هذا الشك الذي كاد أن يعصف بدماغه من كثرة التفكير. لمع في عقله أمر في غاية الأهمية، فقد وجد أخيرا شيئا لا يمكن الشك فيه أبدا بحسب رأيه، وهو وجوده الشخصي كذات مفكرة، وليس وجوده ككيان مؤلف من جسد وعقل وغير ذلك. ويعتبر ديكارت أن هذا الشك الذي هو عليه الآن، يعني أنه يفكر. وهذا يعني بالضرورة أنه موجود وأنه يمارس التفكير والشك. هذا الأمر جعل ديكارت يتيقن من وجوده، فمادام يفكر فهو إذا موجود. وهكذا خرجت إلى الوجود المقولة الشهيرة لديكارت التي تسمى “الكوجيتو الديكارتي”: أنا أفكر إذا أنا موجود.
بعد هذا التأمل، الذي جعل ديكارت يقتنع بوجوده كنفس مفكرة، انتقل إلى التأمل التالي. فبدأ يطرح على نفسه أسئلة من قبيل: إذا كنت موجودا فلماذا شككت في وجودي أصلا؟ سؤال جعل ديكارت يصل إلى كون هذه النفس المفكرة والموجودة يعتريها نقص جعله يشكك في وجودها. وبالتالي ديكارت يشك فهو إذا موجود، وهو نفس موجودة ومفكرة وهذا أمر يقيني أيضا، لكن هو متأكد الآن أن هذه النفس يعتريها النقص. لكن هناك أمر جوهري وقف عنده ديكارت، وهو هذا الموجود الناقص الذي باستطاعته أن يفكر بموجود كامل. يستطرد ديكارت في تأمله هذا، ويقول من المؤكد أن النفس الناقصة هذه، لا تستطيع أن تصل إلى مفهوم الكمال لوحدها. ومن المؤكد أيضا أنه لم يستوح هذا المفهوم من كائن ناقص آخر، لأنه هو أيضا مثل ديكارت كائن ناقص، ويحتاج لمن يمده بهذه المعرفة أو بهذا التفكير.
يُمعن ديكارت في طرح تساؤلاته ويسأل على أي شيء اعتمد لمعرفة كونه كائن ناقص. فالأشياء تقاس بنقائضها، فطالما هناك نقص في مكان ما، هناك كمال مطلق في مكان آخر، ولا شك أنه موجود حتى استطاع ديكارت أن يفكر فيه. بالتالي فهذا الكامل هو الله. وبما أنني موجود وناقص، والكامِل بطبيعة الحال هو خير وأعلى من الناقص فلا بد أيضا أن يكون هو من أوجدني، وبهذه الطريقة أثبت ديكارت وجود الله وهو الكمال المطلق. وهذا هو التأمل أو اليقين الثاني الذي توصل إليه ديكارت وجعله ينتقل من الشك إلى اليقين.
بعد أن أدرك ديكارت الحقيقة الأولى التي جعلته يتيقن من وجوده، والحقيقة الثانية التي مكنته من التيقن من وجود الله، انتقل إلى التأمل الثالث وهو ثنائية النفس والجسد. ويقوم هذا التأمل على أساس أن النفس والجسد هما عنصران مختلفان جوهريا عن بعضهما البعض. أي أن لا وجود لأي تشابه بينهما، ويمكن أن يوجد الواحد بمعزل عن الآخر، بسبب كونهما جوهران منفصلان. وللتدليل على هذا الأمر، استند ديكارت إلى برهانين اثنين. يقوم البرهان الأول على قاعدة “الكوجيطو” الذي توصل فيه ديكارت إلى حقيقة “أنا أفكر، إذا أنا موجود”. لكن هذا “الكوجيطو” مكَّن ديكارت من التيقن من وجود نفسه وليس جسده. ولم يتحقق من وجود جسده إلا بعد رحلة من الشك والتساؤلات. وعدم إدراكه لوجود نفسه وجسده في آن واحد، هو دليل ديكارت على أن النفس والجسد ليسا جوهرا واحدا. فالنفس هي من طبيعة مغايرة للمادة المكوِّنة للجسم. فتيقن ديكارت أولا بوجود النفس، ثم في مستوى ثان تيقن من وجود الجسد، يعني أن النفس هي من طبيعة مغايرة للجسد.
أما البرهان الثاني فيقول إن النفس هي كلية لا تقبل القسمة أبدا، فلا يمكن اقتطاع أو استئصال جزء من النفس لكونها كلية لا تتجزأ. بينما الجسد هو مادي ويقبل التجزئة والتقسيم، بمعنى أن الإنسان بإمكانه قص شعره وتقليم أظفاره أو بتر واستئصال أحد أعضائه بعملية جراحية، وهذا الأمر هو دليل ديكارت بأن النفس والجسد ليسا من مصدر واحد ولا من طبيعة واحدة. ويُتابع ديكارت تدليله هذا بطرح أسئلة من قبيل بتر عضو أو أكثر من الجسد هل يؤثر في طبيعته؟ فيُجيب ديكارت بأن الجسد بطبيعة الحال يتأثر بنقص أحد أعضائه. ثم يتساءل: بعد بتر عضو أو أكثر من الجسد فهل تتأثر النفس أو العقل أو الروح بهذا النقص في الجسد؟ ويُجيب ديكارت أن النفس لا تتأثر بالنقص في الجسد لا من قريب ولا من بعيد، ولو تعلق الأمر باستئصال أو بتر جميع أعضاء الجسد. فوعينا الذاتي بوجودنا يظل كما هو لا يتغير بأي نقص يتعرض له الجسد. الإنسان إذا ليس جوهرا واحدا وإنما هو يتكون من جسد ومن نفس. الجسد من منظور ديكارت هو ينتمي إلى العالم المادي، فيما النفس فتنتمي إلى عالم آخر غير مادي. ويفسر الفيلسوف هذا الأمر بكون الجسد يعزف الموسيقى والنفس تتذكر الألحان.