الفن نشاط إنساني جميل وممتع ، ووسيلة فعالة لإثارة الأحاسيس وإيصال الرسائل بشكل ضمني وسلس يروق للمتلقي، وفي هذا تكمن قوة تأثيره وأهمية استعماله. وما أثير في الشهور الماضية من تفاعل ونقاش حول إنتاجات محسوبة على الفن، يؤكد هذه الفكرة، ويبرز حساسية بعض الفئات في المجتمع حيال محتوى الأعمال الفنية الجديد، التي ظهرت مؤخرا وانتشرت بين الشباب وعلى نطاق واسع.
من “عطيني ساكي باغا نماكي” الى “شر كبي أتاي” التي صدرت من مدينة فاس العالمة, كمنتوج محسوب على لون موسيقي حديث و مختلف، يرى أصحابه أنه امتداد لموجة فنية ظهرت في الغرب، لتشكل ثورة وقطيعة مع ما هو سائد كالموسيقى الكلاسيكية والشعبية، فأغاني هذا الفن تختلف إيقاعا ومضمونا و أداء، و هو خلاصة ما أنتجه السياق الاجتماعي و الفني في الغرب. لكن الغريب أن الشباب هنا في بلدان التبعية، لم يأخذوا السياق الاجتماعي بعين الاعتبار، واكتفوا فقط بالقشور، فأسقطوا السراويل الفضفاضة تقليدا، وغنوا الهيب هوب والراب محاكاة، واستخدموا لغة ساقطة وألفاظا بذيئة تنهل من لغو المنحرفين. مكتفين بهذا الأسلوب السمج والممجوج الذي يعتمد الإثارة الرخيصة دون أن يعلموا أن هذه الموجة من الأغاني أثارت جدلا فنيا وقانونيا لحظة ظهورها ، بسبب محتواها العنيف والخال أحيانا من المعنى، كتعبير عن ثقافة الرفض والاحتجاج وما بلغته الإنسانية من رداءة وخواء، وهو ما لا يدركه شبابنا الذي انخرط في هذه الموجة دون أن يدرك سياقها، مكتفين فقط بترديد الكلام السوقي والساقط وكأنه غناء..
ومن أجل الكشف عن هذه الرداءة و فضح تخلفنا في هذا الفن، نستحضر هنا نموذجا من الضفة الشمالية للمتوسط و فرنسا تحديدا، حيث انتشر هذا الفن و برز فيه شباب غنوا لقضايا المجتمع مثل كاري جيمسKary James الذي يغني عن مواضيع تهم الضواحي و اللامساواة في المجتمع الفرنسي والمدرسة وحياة الهامش بخطاب محفز ومستفز، ينشر الوعي و يحذر من الظواهر السيئة، يبين اهتمام هؤلاء المغنين بالسياسة وبما يدور في الشأن العام، ففي سنة 2005 رد كاري جيمس بأغنية على نعت الرئيس الفرنسي ساركوزي لشباب الضواحي بالحثالة « Racaille »، وقد كان خذا الرد بمثابة بيان سياسي في قالب فني جميل، جمع فيه بين عمق المحتوى وجمالية الإيقاع . هذا الفنان المبدع غنى أيضا عن الديموقراطية والعنصرية والاستعمار في أغنيته ” رسالة الى الجمهورية”. وفي ظل هذه المقارنة البسيطة يتضح جليا البون الشاسع بين المثالين والعناوين، ما يعكس فرقا في الذوق والمعنى و بين مغنيي الضفتين.
ويمكن تعميم هذا الحكم على كوميديا رمضان أيضا، لأنها أثارت جدلا، وجددت الانتقادات الموجهة للأعمال الفنية، حيث وجه العديد من المتتبعين انتقادات لاذعة لهذه الإعمال، مثل ما ما حدث مع سلسلة “ولاد ايزة” كنموذج للأعمال التلفزيونية الرديئة التي تستجدي الضحك “الباسل”، دون مراعاة لقيم المجتمع ومُثُله، و قد صرح الباحث ادريس قصوري أن منسوب العنف اللفظي والجسدي في هذه السلسلة مرتفع ومقصود، حيث إن مشاهد العنف الممارس على الممثل الذي لعب دور المعلم تكررت في جميع الحلقات، ومظهره بشعر أشعث، وملابس مضحكة، وإيماءاته فيها إشارات ضمنية للمشاهد الدونية، وتكرس التمثلات السلبية عن المعلم والنظرة الاحتقارية لهذا الموظف النبيل. أما الحوار في السلسلة فقد عمق الفكرة وأوضح الصورة التي أرادوا أن يظهر بها، وهي صورة مشوهة تؤثر حتما في تصورات المتلقي، وبالتالي قد تترجم واقعيا الى سلوكات فيها عنف ضد الأستاذ ومن خلاله المدرسة.
إن بعض الأعمال التي تعرض في رمضان لا تستجيب لانتظارات المشاهد المغربي، لأن بناءها الفني غير ذي معنى، وتطغى عليه السطحية، كون فعل الإضحاك فيها مؤسسا على أسلوب فاشل وغير ذكي، فيه إسهال في الكلام والصراخ و”تعواج” الفم. هذا الضجيج والصراخ وهذه البهلوانيات لا تثير الفرجة بقدر ما تثير امتعاض الجمهور وسخطه.
ففي خضم هذا المشهد الفني الذي يغلب عليه العبث، وتبرز فيه الى السطح التفاهة والإسفاف, نحتاج الى التفكير في إصلاح مبني على سياسة ثقافية ترتقي بالإنتاج الفني وتشجع الأعمال الفنية الهادفة والذكية، والمؤسسة على عمق في الفكرة والمحتوى دون إغفال القالب الفني من تصوير وإخراج وفنون الأداء. ولا يمكن أن نرتقي بالذوق والوعي في المجتمع دون حرية ودون تطوير للثقافة، وفي غياب للإبداعات كتابة وتمثيلا. يقول تولستوي عن الفن في خاتمة كتابه “ما الفن؟”، و هو الذي درس الموضوع لأزيد من خمسة عشر سنة ليجيب عن السؤال: “إن الفن بوسعه أن يثير الإجلال تجاه قيمة كل إنسان وحياة كل حيوان، بوسعه أن يثير شعور الخجل من البذخ والعنف والانتقام، ومن استخدام المواد الضرورية لحياة الآخرين من أجل المنافع الخاصة، بوسعه أن يرغم الناس على التضحية بالحرية و السعادة في سبيل خدمة الاخرين”. صحيح أن كلام تولستوي كلام ذو نزوع إنساني، غير أنه كلام مكثف، يحمل الكثير من المعاني، ويصلح لأن يكون إطارا فلسفيا وأخلاقيا للأعمال الفنية، ويحدد الوجهة لمن لا وجهة له.
بقلم عبدالله الخطاب.