العبارة أعلاه صدمت العقل السياسي التقليدي للنخبة البرلمانية، التي كانت تستمع إلى رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أول أمس، وهو يرد على أحزاب المعارضة التي جاءت إلى مجلس الأمة تزايد على رئيس الحكومة بالإنجازات الملكية، وتعتبر أن كل المشاريع المهمة تخرج من القصر، فيما الحكومة لا تفعل شيئا. بنكيران بعفويته وجرأته قال أمام الكاميرات التي كانت تنقل جلسة المساءلة الشهرية: «يجب أن ننتهي من حكاية أن ما يفعله الملك مزيان، وما تفعله الحكومة خايب. الحكومة تعمل إلى جانب الملك، وليس هناك تمييز بينهما. راميد مشروع جلالة الملك، لكن واش الملك طبيب؟ الذي نفذ مشروع التغطية الصحية هي الحكومة»، ولكي يضع التوابل فوق كلامه، حكى بنكيران للبرلمانيين، ومن خلالهم للرأي العام، ما دار في المجلس الوزاري أياما قبل إطلاق مشروع راميد، فقال: «لقد أخبرني جلالة الملك في المجلس الوزاري بتوقيت إطلاق برنامج الراميد في الأسابيع الأولى للحكومة، فأخبرته بأنني سأكون في مهمة بفرنسا في ذلك التاريخ، حسب ما كلفتني به، فرد الملك علي: نؤخرها حتى ترجع من فرنسا»، أي نوجل إطلاق المشروع حتى يرجع بنكيران من فرنسا، عنوانا على إشراك رأس السلطة التنفيذية في مشروع استراتيجي.
كاتب هذه السطور انتقد بنكيران أكثر من مرة بسبب جمل أطلقها خارج النص الدستوري أو القانوني أو السياسي مثل: «أنا جيت غير نعاون»، أو «الملك رئيسي في العمل»، أو «عفا الله عما سلف»، وكلها عبارات لم تكن تخدم منطوق الدستور الجديد، ولا روحه، ولا الانسجام مع ظروف ولادة هذه الحكومة من رحم الربيع العربي، لكن تصريحه في البرلمان هذه المرة يستحق التوقف عنده، لأن فيه شجاعة لتوضيح علاقة الملك بالحكومة، وضرورة القطع مع الثقافة التقليدية للنخبة المولوية التي تقيم حاجزا فاصلا بين مبادرات الملك وعمل الحكومة، في محاولة لتبخيس الثانية والرفع من الأولى، وكأن الميزانية التي تمول المشاريع الملكية تأتي من صندوق في المشور السعيد وليس من ميزانية الدولة، وكأن من ينفذ هذه المشاريع حكومة ظل لا علاقة لها بحكومة الشمس التي نراها. نعم، كان جزء من هذا الوضع في السابق قبل وضع الدستور الجديد، لكن الآن الأمر تغير، ويبدو أن الكثيرين ليسوا على علم بذلك، أو أنهم يحنون إلى زمن العيش في جلباب الملكية الدافئ، ولا يريدون أن يخرجوا لتحمل المسؤولية.
الملك يدعم إطلاق عدد من المشاريع الاستراتيجية (مثل الطاقة النظيفة، المخطط الأخضر، مخطط النهوض الصناعي…)، والملك يقف خلف الإخراج الإعلامي والسياسي لهذه المشاريع من أجل تقويتها، ومن أجل تحفيز الإدارة على حسن إنجازها، وبغرض تعبئة الموارد خلفها، لماذا؟ لأن للمؤسسة الملكية ثقلا دستوريا وسياسيا ورمزيا، ولأن ثقافة الإدارة عندنا تقاوم التغيير وتقاوم الابتكار، لكن الملك لا ينافس الحكومة، ولا يقدم حصيلة لأحد، وهو غير مسؤول عن إنجاز أو عدم إنجاز ما أطلقه من مشاريع اقتصادية واجتماعية. الدستور الجديد واضح بخصوص توزيع السلط وهندستها، وتحديد مجالات حركة كل مؤسسة، ولهذا على الخطاب السياسي للمعارضة أن يرتقي إلى مستوى هذا الدستور الذي كان ثمرة انتفاضة ديمقراطية مهمة في تاريخ المغرب، وهذا الدستور وما تبعه من مبادرات هو الذي يشكل عماد «الاستثناء المغربي» اليوم في العالم العربي، فخطاب 9 مارس كان لحظة كبيرة لإنهاء مقولة الملكية التنفيذية وميلاد الحكومة المسؤولة، وهذا ما ترجم في دستور 2011، وكان المؤمل أن يتطور أكثر مع هذه الحكومة.
لكن ليست المعارضة فقط هي المسؤولة عن سوء الفهم هذا بين المبادرة الملكية والإنجازات الحكومية. هذه الحكومة هي أيضا مسؤولة عن ظاهرة الفصل بين المبادرة الملكية والمبادرة الحكومية لأسباب عدة، منها عدم احترام الدستور، والرجوع إلى الملك في كل صغيرة وكبيرة، وضعف الحضور في القضايا الكبرى والأحداث المهمة تحت وهم «مزاحمة الملك». هذه ثقافة سياسية ودستورية متجاوزة، وعلى بنكيران وصحبه أن يقطعوا معها، وأن يراجعوا دروس القانون الدستوري كل صباح، من أجل السماح للديمقراطية بأن تنبت في الحقل المغربي، حتى نشرع في ربط السلطة بالمحاسبة، والقرار بصندوق الاقتراع، والمبادرة بممثلي الأمة، فالملك أوصى رئيس حكومته، أكثر من مرة، بضرورة احترام الدستور، وعدم السكوت على خرقه من قبل أي كان، حتى ولو جاء الخرق من مساعدي الملك، كما أخبر بذلك بنكيران المغاربة في أكثر من مناسبة.
نحن لن نخترع العجلة من جديد، كل الأنظمة الملكية الناجحة في العالم تعطي السلطة المادية للحكومات حتى تتسنى محاسبتها، وتعطي السلطة الرمزية للعروش حتى تظل فوق المحاسبة، وتبقى عنوان وحدة وانسجام، وبوليصة تأمين من المخاطر الكبرى التي يمكن أن تعصف بالأمة.
توفيق بوعشرين
_واش الملك طبيب ؟

التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.