الذي يريد أن يتحدث في السياسة عليه أن يضع الخريطة أمامه قبل أن يدلي برأي أو يقطع بحكم.. هكذا كان الجنرال دوغول يوصي الفرنسيين في زمن الحرب والسلم، واليوم عندما نفتح نحن هنا الخريطة المغربية ماذا نجد؟ في الشرق جار عنيد اتخذ من عداء المغرب إيديولوجيا في الحكم، ورغم أن ثلوج الحرب الباردة ذابت قبل ربع قرن، فإن توتفليقة وجنرالاته مازالوا مصرين على أن قوة الجزائر تخرج وجوبا من ضعف المغرب، وأن نزاع الصحراء حجر في حذاء الرباط، ويجب أن يبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تنسى الجزائر أن كلفة «اللامغرب عربي» باهظة، وأنها تتراوح، حسب الخبراء، بين 1 و5.1 من نسبة النمو في كل بلد من البلدين. ربما تتعلم الجزائر علم الحساب إذا بقي سعر البرميل من النفط والغاز في المستويات المتدنية الآن، آذاك ربما نرى أحد السيناريوهين، إما أن يقع تغيير حقيقي في إدارة البلد وفي توجهاتها داخليا وخارجيا، أو سنشهد انفجار الوضع بصورة دراماتيكية، خاصة أن الجيش الجزائري لم يعد كتلة واحدة موحدة. لقد نجح الرئيس المريض في تفتيت الجيش لترويضه، وخلق منه مراكز قوى ونفوذ متصارعة.
في شمال المغرب هناك الاتحاد الأوروبي، وهو اتحاد مريض منذ 2008، والآن تتعرض وحدته لاختبار حقيقي، وهو، للأسف، لم يعد ينتج غير الخوف من الإرهاب والمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين والمخدرات، وبين الحين والآخر يسبب المتاعب للرباط، مثل ما حصل مع المحكمة الأوروبية التي أسقطت الاتفاق الفلاحي الأخير بين الرباط وبروكسيل، واعتبرت الصحراء مناطق محتلة، ونصبت البوليساريو ممثلا وحيدا للصحراويين، وهذا ما لا يقول به حتى محمد بنعبد العزيز، زعيم الانفصاليين. نعم، على الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي توجد إسبانيا جارتنا الشمالية، التي تخلت عن أظافرها تجاه المغرب من أجل حماية مصالحها التي تكبر يوما بعد آخر في بلاد «المورو»، لكن هذا الجار مازال يحتل أراضي مغربية في الشمال، ومازال بعيدا عن فهم المغرب ومتطلبات التنمية فيه.. إنه جار وليس شريكا. في الجنوب هناك طرفان كلاهما غير صديق بالمعنى التقليدي للكلمة.. هناك موريتانيا التي لا يخفي حاكمها تبرمه من المغرب، حتى إنه لم يزر الرباط منذ وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري، وهو ما رد عليه المغرب بإبقاء السفير المغربي في نواكشوط رغم أن عبد العزيز لا يحبه لأسباب مازالت مجهولة. موريتانيا تريد أن “تبيع شبابها غالي” للمغرب، والرباط لا تريد أن تدفع مقابل هذا الحب، ويبقى الوضع على ما هو عليه. أما الطرف الثاني الذي يجاور المغرب في الجنوب فهي قوات المينورسو المرابطة في الصحراء، وهي تذكر الجميع بأن الحرب مع البوليساريو لم تنتهِ، وأن وقف إطلاق النار ما هو إلا إجراء مؤقت من أجل إتاحة الفرصة للسياسيين للوصول إلى حل متفاوض عليه. القبعات الزرقاء التي تجوب مدن الصحراء تذكرنا كل صباح بالحصى الموضوعة في حذائنا، وهي حصى أصبحت دولية تعرض على مجلس الأمن كل سنة، ومن هنا تأتي خطورة تصريحات بان كي مون الأخيرة.
ماذا بقي أيضا على الخريطة؟ إنه عالم عربي ممزق، خرج من التاريخ المعاصر ورجع إلى القرون الوسطى يبحث فيها عن قواميس الحرب الطائفية وفقه الفتنة الكبرى… ليبيا مهيأة في أي لحظة لإعلان إمارة جديدة لداعش، بعد وصول المقاتلين الجوالين هناك إلى رقم 20 ألفا وأكثر في بلاد مساحتها أكبر من مساحة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبلجيكا مجتمعة، وفوق رمالها أكثر من 50 مليون قطعة سلاح وحكومتان وبرلمانان، ومئات الميلشيات التي تتاجر بالنفط وبمستقبل بلاد عمر المختار… سوريا تتفتت، والعراق ممزق، واليمن ينزف، ودول إفريقيا جنوب الصحراء تتفرج على تفريخ الخلايا الإرهابية ولسانها يردد: «العين بصيرة واليد قصيرة»، وفوق كل هذا يقول الرجل الأول في العالم، باراك أوباما، لمجلة أتلنتيك: «إن مخاطر تلوث البيئة أكبر من مخاطر الإرهاب»، وكأن الدولة الأعظم في العالم لا يمكن أن تحارب الأمرين معا في وقت واحد.
هكذا تبدو المملكة الشريفة شبه محاصرة من الشمال والجنوب والشرق، أما على الأطلسي فإن ساكن البيت الأبيض لم يعد يرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلا منطقة معقدة مليئة بالمشاكل، وهو يفتخر بأنه أبعد بلاده عن التورط في مستنقعاتها، وترك الأمر للقيصر بوتن والملك سلمان وملالي إيران والسلطان أردوغان ومناورات رعد الشمال.
للأسف، النخب السياسية المغربية تحتاج إلى دروس تقوية في مادة الجغرافيا السياسية، وجل عناصرها يخوضون في السياسة وحروبها وعلى عيونهم غشاوة تمنعهم من رؤية المشاكل المحيطة بالبلد، والمخاطر التي تلوح من قريب ومن بعيد… لا يمكن للساسة اليوم أن يُسقطوا حسابات الجغرافيا والمحيط الإقليمي والدولي من تفكيرهم وخططهم ومعاركهم. الاقتصاد صار معولما، والإرهاب صار معولما، والإعلام صار معولما، والثقافة صارت معولمة، والحرب صارت معولمة… فلا يمكن أن نشتغل نحن بنخب لا تفقه إلا القليل في شؤون العصر وأحوال الزمان وتقلبات الوقت.
توفيق بوعشرين
التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.