بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
إيكودار: عبقرية المغاربة التي سبقت عصرها وأرست أول نظام بنكي و اجتماعي في التاريخ
في عمق جبال الأطلس وسهول سوس جنوب المغرب، ما تزال بقايا إيكودار ، أو “أكادير” بصيغة المفرد ، شاهدة على حضارةٍ عريقةٍ تجسدت فيها عبقرية الإنسان المغربي وقدرته الفذة على التنظيم والتفكير الجماعي. هذه البنايات الحجرية الضخمة، التي تعود إلى ما يزيد عن قرون، ليست مجرد مخازن جماعية كما يظن البعض، بل كانت في حقيقتها أول نظام بنكي واجتماعي متكامل في تاريخ البشرية.
- عبقرية التنظيم قبل عصر المؤسسات
في وقتٍ لم تعرف فيه البشرية بعدُ مفهوم “البنوك” كما نعرفها اليوم، كان المغاربة قد أسسوا نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا متطورًا يقوم على الثقة الجماعية والتدبير المشترك.
كانت كل أسرة تمتلك غرفة صغيرة داخل الإيكودار، تُودع فيها مؤونتها ومجوهراتها وأموالها وحبوبها، في أمانٍ تام تحت إشراف “أمين الإيكودار” الذي اختير بعناية من أبناء القبيلة لما عُرف عنه من نزاهة وعدل.
لم تكن هناك فوائد ولا عقود معقدة؛ بل كان النظام قائمًا على قيم التضامن والأمانة، في تجسيدٍ راقٍ لفكرة “الاقتصاد الأخلاقي” الذي يتطلع إليه العالم المعاصر اليوم.
- هندسة معمارية للأمان والثقة
ما يثير الإعجاب في هذه المعالم ليس فقط بعدها الاجتماعي، بل أيضًا تصميمها الهندسي الفريد.
فقد بُنيت الإيكودار في مواقع مرتفعة، بأسوارٍ سميكة وأبراج مراقبة، لتكون حصونًا منيعة تحمي ثروات القبيلة من السرقة أو الاعتداء. هذا التصميم الدفاعي الذكي جعل منها نموذجًا متكاملًا يجمع بين الأمن، والتنظيم، والاستدامة.
كما أن النظام الداخلي لتوزيع الغرف وتوثيق الملكيات كان دقيقًا للغاية، بحيث يُعرف لكل أسرة “غرفتها” المخصصة برموز أو نقوش فريدة، ما يشبه اليوم نظام “الخزائن البنكية” الحديثة.
- إيكودار… مرآة لقيم حضارية خالدة
ليست إيكودار مجرد منشآت حجرية صامتة؛ إنها ذاكرة حية لقيم التآزر والمسؤولية الجماعية التي ميزت المجتمع المغربي منذ قرون.
فقد اعتمد الأجداد على مبدأ “اليد الواحدة”، حيث يتكفل الجميع بحراسة الإيكودار وصيانتها، في تجسيد عملي لمفهوم “الملكية المشتركة” و”الاقتصاد التضامني” الذي أصبح اليوم من أهم ركائز التنمية المستدامة.
لقد أدرك المغاربة باكرًا أن الثروة لا تكتسب معناها الحقيقي إلا حين تُدار بروحٍ جماعية، وأن الأمن الاقتصادي لا يتحقق إلا حين يُبنى على الثقة بين الأفراد.
- إشادة بالأجداد… رواد الفكر الاقتصادي الإنساني
حين نتأمل تجربة إيكودار، ندرك أن أجدادنا لم يكونوا مجرد بناة للحجارة، بل رواد فكر وتنظيم سبقوا عصرهم بقرون.
لقد ابتكروا فكرة “البنك الجماعي” في زمنٍ لم تعرف فيه أوروبا بعدُ حتى مفهوم الادخار المنظم، وأسّسوا لنظامٍ اقتصادي متكامل يقوم على الشفافية والمراقبة الجماعية دون الحاجة إلى أوراق أو معاملات مكتوبة.
إن إشادتنا اليوم بهؤلاء الأجداد ليست فقط اعترافًا بفضلهم التاريخي، بل تذكيرٌ بأن جذور الحداثة والابتكار ضاربةٌ في عمق تراثنا المغربي، وأن ما نراه اليوم من مؤسسات مالية وتنظيمات اقتصادية لم يأتِ من فراغ، بل له امتداد حضاري وإنساني في تجارب شعوبنا الأصيلة.
- إيكودار اليوم… من رموز الاقتصاد إلى معالم السياحة والهوية
اليوم، ومع ازدياد الاهتمام بالتراث الثقافي اللامادي، تحظى إيكودار باهتمام الباحثين والمؤرخين والمهتمين بالثقافة و التاريخ .
فقد أصبحت هذه المواقع قبلةً للسياح من داخل المغرب وخارجه، ومصدر إلهامٍ لخبراء الاقتصاد الاجتماعي الذين يرون فيها أول نموذج عملي لمصرفٍ شعبي يعتمد على الثقة والتضامن بدل الربح والمضاربة.
- خاتمة
إيكودار ليست مجرد حجارة نُقشت عليها ذاكرة الزمن، بل هي درس حضاري خالد في معنى الأمانة، وفي كيفية تحويل القيم الاجتماعية إلى مؤسسات عملية تحفظ للناس أموالهم وكرامتهم.
إنها رسالة من أجدادنا إلى العالم: أن الابتكار لا يولد فقط في المدن الكبرى أو بين أروقة الجامعات، بل يمكن أن يولد من قلب الجبال حين يجتمع الإخلاص بالعقل الجماعي.
لقد آن الأوان أن نستعيد هذا الإرث بفخر، وأن نُحيي روح “إيكودار” في مؤسساتنا الحديثة، لا فقط كتراث معماري، بل كرمزٍ لعبقرية الإنسان المغربي التي لا تزال تنبض بالحياة في وجدان كل واحد منا .


التعاليق (0)