فسحة الصيف مع الفلسفة الحلقة -35-..إيمانويل كانط فيلسوف نقد العقل الخالص

إيمانويل كانط فسحة الصيف

سعيد الغماز/

الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.

من الأمور التي ميزت فلسفة كانط، هي استعماله لغة صعبة، واعتماده مصطلحات فلسفية معقدة، تجعل فهم أفكاره أمرا غاية في الصعوبة. وهناك من يقول إن كانط كان يكتب لنخبة الفلاسفة وليس لعموم المثقفين والمهتمين. وقال كانط عن فلسفته إنها ثورة “كوبيرنيكية” في مجال الفلسفة.

شكلت فلسفة كانط فارقا مفصليا في تاريخ الفلسفة، وأصبح الكثير من الفلاسفة يتحدثون عما قبل وما بعد كانط. وللإلمام بشكل بسيط وواضح بفكر المفكر، سنعرج باختصار شديد على حقبة ما قبل كانط. خلال هذه الحقبة كانت الفلسفة تتناول بالأساس موضوع ما هو المصدر الموثوق الذي بواسطته نستطيع بلوغ المعرفة الصحيحة. الجواب عن هذا السؤال أنشأ مدرستين مختلفتين. المدرسة العقلية التي تشكك في الحواس كمصدر للمعرفة بسبب كونها حواسا تخدعنا كرؤية القمر في حجم صغير وهو في حقيقته كوكب كبير. ومن أبرز روادها “ديكارت” و”سبينوزا” و”لايبنز” وغيرهم…والمدرسة التجريبية المعتمدة على الحواس. هذه المدرسة تشكك في العقل بكونه مصدرا للمعرفة الصحيحة. ونفت هذه المدرسة وجود أي أفكار فطرية أو قبلية في العقل البشري قبل القيام بأي تجربة. من أبرز رواد هذه المدرسة “جون لوك” و”جورج بيركلي” و”ديفيد هيوم” وغيرهم…

قبْل كانط كانت الفلسفة منغمسة في الجدال وفي النقاش العقيم بين المدرسة العقلية والمدرسة المادية. لكن الفيلسوف سيعطي بُعدا جديدا لمباحث الفلسفة ولموضوعاتها. اعتبر كانط أن الجميع يحتكم إلى العقل ويستعمل هذه الأداة دون تفحصها أو التأكد من إمكانياتها والمعرفة الجيدة لحدود معرفتها. ويمكن أن نستعرض آراء كانط حول العلاقة بين الفلسفة العقلية والفلسفة التجريبية التي قسمت فلاسفة العالم منذ عصر أفلاطون وأرسطو، من خلال نقده لآراء كل من “لايبنز” و”هيوم”.

رأى كانط أن كلا من المفكرين أصابا في جانب وأخطآ في جانب آخر. “أصاب “لايبنز” في أن لدينا تصورات قبلية، لكنه أخطأ في أن وظيفتها تمكيننا في معرفة عالم معقول. وأصاب “هيوم” في أن ليس لدينا معرفة بعالم معقول وفي أن معرفتنا محدودة بالعالم المحسوس، وأخطأ في تقرير أن الانطباعات الحسية والتصورات التجريبية كافية لتمكيننا من معرفة العالم المحسوس. أما كانط فرأيه يذهب إلى أن ليس لدينا معرفة بالعالم المعقول وأن معرفتنا محدودة بعالم الظواهر، ولكن لكي نعرف هذا العالم يلزم أن تتعاون الانطباعات الحسية والتصورات القبلية وأن المجال الوحيد لهذه التصورات هو عالم الظواهر”.

الفيلسوف كانط اعتبر أن استعمال أداة العقل لا يعني بلوغ المعرفة العلمية، ولكن الأهم من استعمال العقل هو تحليل هذا العقل، تحليل طبيعته-ماهيته-معرفة إمكانياته وإلى أين يمكن أن يصل؟ ماهي حدود هذا العقل؟ وما هي مجالاته واختصاصاته؟ بعد هذا الافتحاص نستطيع استعمال العقل بكل ثقة ونحن نعرف كل المعرفة ما هي الحدود التي يمكن أن يوصلنا إليها. إنه تحول ثوري في الفكر الفلسفي قام به كانط.

مشروع كانط نستطيع أن نختصره في كون الفيلسوف وضع العقل على طاولة البحث وقام بتحديد حدود هذا العقل وإمكانياته ومجال عمله. وبناء على نتائج هذا البحث نستطيع أن نحدد لاحقا ما هي القضايا والمسائل التي ممكن للعقل أن يحكم بها، وبالتالي يكون حكمه مشروعا. يمكن أن نحدد كذلك ما هي القضايا التي لا يمكن للعقل أن يحكم بها لأنها خارج قدراته. واستعمال العقل في هذه القضايا سيكون حكمه غير مشروع وباطل. كانط، ولأول مرة في تاريخ الفكر حوَّل البحث الفلسفي من طبيعة الواقع إلى طبيعة العقل نفسه.

الأفكار الرئيسية في مشروع كانط الفلسفي عرضها في كتابه “نقد العقل الخالص” حيث لخص فيه فكره حول سؤال مركزي يتمحور حول ما يستطيعه العقل الإنساني. وحاول الإجابة عن ثلاثة أسئلة: ما الذي نستطيع معرفته؟ ما الذي يجب علينا فعله؟ وماذا يمكننا توقع بلوغه؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة قسَّم كانط العقل الإنساني إلى ثلاثة أقسام أو مَلَكات ¹ ذهنية: مَلَكَة المعرفة-مَلَكَة الإرادة-ومَلَكَة الحُكم. ولكل قسم من أقسام العقل خصص له كتابا. أسماء الكتب هي على التوالي: نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي ونقد مَلَكة الحُكم.

يمكننا معرفة أفكار كانط من خلال المصطلحات الثلاثة التي يحتويها عنوان كتابه “نقد العقل الخالص” وهي النقد والعقل ومصطلح الخالص. يعتبر كانط أن النقد ليس مفهوما يتضمن فقط ما هو سلبي، بل هو يتضمن معاني إيجابية كالتقييم والتحليل. وكل عملية تقييم لها وجهان: وجه سلبي ووجه إيجابي، حالها حال كل أمور الإنسانية القائمة على أساس النسبية.  فليس هناك ما هو سلبي بالمطلق، ولا ما هو إيجابي بالمطلق. فالعلم له وجه إيجابي مرتبط بكل ما قدمه للبشرية وآخر سلبي لا يبدأ باكتشاف البارود ولا ينتهي بصنع القنبلة النووية. الأديان هي الأخرى لها وجه إيجابي يتجلى في منح الإنسان الأمل والهدوء النفسي والصبر على المحن وآخر سلبي يتجلى في تعزيز بعض الأديان الحقد بين أتباع الأديان المختلفة وتكريس الفرقة بين الناس. حتى الأفكار والسياسات والإيديولوجيات كلها لا تخلو من وجه إيجابي وآخر سلبي. كتاب “نقد العقل الخالص” يُريد منه كانط تحديد الإيجابيات للبناء عليها وهي مُختصرة في إمكانات العقل، وتحديد السلبيات لتجنبها وهي القضايا التي ليست داخل نطاق قدرة العقل. فالنقد عند كانط هو التحليل والتقييم والتمييز.

المصطلح الثاني هو العقل، ولا يقصد به كانط ذاك العضو المادي الذي نقصد به الدماغ أو المخ، بل العقل في تحليل كانط هو عملية عقل الأشياء. بمعنى صناعة المعرفة وآليات التفكير والحُكم.

المصطلح الثالث هو الخالص، والذي يرمز من خلاله كانط إلى العقل السابق على التجربة، أي العقل النظري الذي لا تستند أحكامه لا على تجربة حسية ولا على خبرة حياتية، وإنما أحكامه تصدر من قوته النظرية والفكرية فقط.

إذا مدلولات العنوان “نقد العقل الخالص” تتلخص في عملية تقييم للعقل وفحص لماهية المعرفة الإنسانية وحدودها المتمثلة في العالم الطبيعي، وأيضا بيان أن عالم ما بعد الطبيعة هو عالم خارج حدود الإدراك البشري المرتبط بالحواس. وبذلك يمكننا القول إن كانط من خلال كتابه أراد إعادة الاعتبار لدور العقل في عملية صناعة المعرفة وقدرة هذا العقل على الوصول إلى علوم حقيقية وموثوقة.

 

التعاليق (0)

اترك تعليقاً