تـمنيت أن أخربش كطفل صغير شبه أشعار عن الزهر والربيع مقلداً أبي القاسم الشابي في وصف الحب والحياة.. أو أن أرسم على ورق أبيض وجوهاً ضاحكةً ومبتسمةً، لَعَلَّنِي أُشطِّبُ على مسرح التراجيديا من قاموس تْشِيكْسْبِّير ومُولْيِيغْ .. كما أني اشتقت إلى رسم العشب الأخضر والحمائم البيضاء، فلربما برسمي ينسى الناس ما رأوه في بعض ألواح بَّابْلُو بِّيكَاصُو عن الحرب والخراب. لقد وددت بحق أن تعاد كتابة تاريخ العالم الجديد فنقرأ عن هيرنان كرتيس وأصحابه أحداثاً ماتعة غير قتل أهالي كِيتْثَالْكْوَاتْلْ واستعمارهم، ثم نهب ما لمع وطاب في أرضهم، ليدحروا بفعلتهم ثقافات شعوب مثلهم، ويحرمونهم الحياة بمجرد أنهم شعوب مختلفة.. يتكلمون لغات مختلفة.. ويؤمنون بديانات أيضا مختلفة.
فلنتأمل إذن كل هذا التاريح اللا..إنساني ولنسأل ضمائرنا: أفلا يغنينا هذا التاريخ الدامي عن كل الحروب الضارية اليوم وغداً؟ ألم يحن زمن استعادة الضمائر الغائبة منذ الأزل لنحيا اليوم وغداً حيواتنا كإنسان؟ ثم ألم يحن لهذا الإنسان أن يتلذذ بسكرات الموت في هناء بعيداً عن دويِّ القنابل والبنادق؟ أفلا يؤلم ما تراه المقل في الشاشات: اغتصاب أراض وإرهاب أحلام وتفجير آمال هنا وهناك في الأقطار؟ تلك أسئلة لا تحتاج من العقل إجابات.. لإنها أسئلة للضمير.. لذاك الضمير.
تمنيت أن أكتب في الجمال ألوف الدواوين، لكن الأقدار – أقدارهم علينا طبعاً – شاءت أن تنثر من حولنا صور الموت والمأساة، حتى نسينا طبائعنا وقتلت في دواخلنا الإنسان. وكيف لا أكتب في الأحزان والعالم يتطاير عنفاً ودماً؟ ثم كيف لا والحرب عمرت في فلسطين أعواماً وتحصد اليوم في سوريا أرواحاً وتركت في لبنان أيتاماً وقتلت في العراق أحلاماً؟ كيف لا وأناس أبرياء تبيدهم قنابل الناقمين بغتة في كل مكان؟ في باريس بفرنسا وأخرى في بروكسيل ببيلجيكا وفي ديار بكر بتركيا وفي لاهور بباكستان، في أورلاندو بأمريكا وأماكن لا حصر لها من عالمنا الجميل. بعيداً عن كل التحليلات المعقدة والنبش في الأسباب والسياقات أقول: إن لا أحد يعذر أبداً بقتل إنسان مهما قويت قرينته وحجته والعنف لا يفسر أبداً بمثيله.
بينما كنت أتابع الفيلم الوثائقي: He named me Malala”” الذي ينقل تجربة الناشطة الباكستاننية ملالا يوسفزاي آلمتني بشدة ما آلت إليه بلدان عمرتها البسمات سنيناً، والآن هي مجرد خلاء يحترق: صار فيها التطرف والتشدد والنهب والقتل أسياداً – وما يؤلم أكثر كونها جرائم لفقت ظلما للدين-، فبئساً لسيادتهم. ثم إن أحد الأطفال السوريين قال ذات مرة وهو يزفر النفس الأخير: “سأخبر الله بكل شيء”. لقد مات الطفل ولم ينه بعد قولته، غير أني سأفتري عليه قولاً وأضيف ما قد يخبر اللهَ به: “يا رب خلقتنا لنعيش ستين سنة وأكثر وهم أعادونا إليك بعد بضعة أعوام.. نحن لم نعش بعد طفولتنا.. لم نرقص ولم نغن للربيع.. هم فقط قتلونا.. يا رب إننا لم نقم بعد صلاةً ولم نزك زكاةً.. لقد أماتونا يا رب على الفطرة.. يا الله.. إنا نسأل اليوم الحساب”.
إنتهى قولنا في هذا المقال آملين أن ينتهي بعده القتل والحرب والألم…
سأخبر الله بكل شيء

التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.