جاءني صوته عبر الهاتف يحمل نبرة غضب واحتجاج، إنه مهاجر مغربي في إسبانيا رفضت السلطات هناك إعطاءه الجنسية الإسبانية رغم توفره على كل الشروط المطلوبة، وفي مقدمتها الإقامة 10 سنوات في شبه الجزيرة الإيبيرية. أخبرني بأن السلطات هذا العام خفضت عدد الجنسيات الممنوحة للمغاربة إلى أقل من النصف (حصل 19 ألف مغربي مقيم في إسبانيا على الجنسية هذا العام، فيما حصل أكثر من 47 ألفا على الجنسية الإسبانية السنة الماضية). قلت له: «هذا طبيعي، الخوف من الإرهاب وآثار الأزمة الاقتصادية ومشاكل الاندماج، ووجود حزب يميني في السلطة، كلها عوامل تتحكم في قرار التجنيس الذي هو قرار سياسي قبل أن يكون إداريا». لم يرحب إدريس المهاجر المغربي في مدريد بهذا الجواب، ولم يقرأ فيه التفسير، بل رأى فيه تبريرا لقرار يزعجه، فقلت: «وما المطلوب الآن يا سيدي؟»، قال لي بعفوية: «يجب أن تكتب عن هذا الحيف الذي يلاحقنا هنا»، وقلت: «وماذا أكتب؟ قرار إسبانيا بمنح جنسيتها لمن تريد قرار سيادي، ولا يمكن لأحد أن يناقشها فيه، لكن يمكنك أن تطعن في هذا القرار في المحاكم الإسبانية». رد علي بعصبية وقال: «لماذا لا يتدخل المغرب للضغط على إسبانيا لتمنحنا الجنسية؟»، أخفيت ضحكة، أو قل قهقهة مثل تلك التي يستعملها بنكيران للتعبير عن السخرية حتى لا أجرح صاحبنا، وقلت له: «هذا غير ممكن. هل تتصور أن هناك مسؤولا مغربيا سيطلب من نظيره الإسباني أن يمنح جنسية دولة أجنبية لمواطنه؟ هذا أمر غير ممكن دبلوماسيا، وهو مهين إنسانيا». رد علي بعصبية: «وما هو المهين في الأمر؟»، قلت له: «دعني أرد على السؤال بسؤال، أنت مقيم في إسبانيا وتتحرك في فضاء شنغن ولا تحتاج إلى فيزا، فلماذا تطلب جنسية أخرى غير تلك التي تحملها؟ هل تريد، مثلا، أن تصوت في الانتخابات التشريعية أو تترشح للبرلمان؟»، فرد علي: «أنا لا أريد انتخابات ولا برلمانا، هذه أمور لا تعنيني، وهي خاصة بأصحاب البلد. أنا أريد جنسية وجواز سفر أحمر لأنني لا أثق في الجواز الأخضر المغربي الذي أحمله. أطلب الجنسية لي ولأولادي لأني خضت مغامرة كبيرة لكي ألتحق بإسبانيا بعدما ذقت ذل الفقر والبطالة والحكرة عندكم في المغرب، ولا أريد أن أجد نفسي غدا مطرودا من هذه البلاد عائدا إلى المغرب، حيث البشر بلا قيمة، والإنسان متروك لمصيره لا يفكر فيه أحد ولا يساعده أحد، ويستطيع آخر مخزني أن يهينه أو يضربه. أنا أدعوك إلى زيارة إحدى القنصليات المغربية هنا في إسبانيا لترى كيف هي أحوالها، وكيف يهان البشر هنا… اسمع يا أستاذ، حتى قط ما تيهرب من دار العرس».
هنا انتهت المكالمة، ووجدتني وقد زدت هموم المواطن المغربي المهاجر، الذي كان يحلم هذه السنة بأن يصير من رعايا صاحب الجلالة الملك فيليبي السادس، وأن يحمل جنسية بلاد الأندلس انتقاما لحاضره وربما لأجداده الذين طردوا من الجنوب الإسباني، بعدما استقروا هناك لقرون.
كم من مغربي يطلب جنسية الدول الأوروبية والجنسية الأمريكية كل سنة؟ كم من مغربي يحلم بالانتقال للعيش في الضفة الأخرى؟ كم من مغربي يقف كل صباح أمام قنصليات أمريكا وإسبانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها… يتسول تأشيرة للدراسة أو العمل أو للسياحة، ويجد أمامه كمية كبيرة من الوثائق، وكمية أكبر من الشكوك في نواياه، هل سيرجع إلى بلده بعد نهاية عمر الفيزا أم لا؟
الهجرة ليست عيبا في حد ذاتها، وهي ظاهرة طبيعية (هاجر 11 مليون إنجليزي ما بين 1911 و1945 إلى أمريكا واستراليا ونيوزلندا وآسيا)، وهي بحث عن فرص جديدة إما في التعليم أو العمل أو المغامرة، لكن أن تصير الهجرة ملاذا وحيدا للملايين من المغاربة، وأن يصير طلب جنسية بلد آخر وسيلة للتخلص من جنسية البلد الأصلي، فهذا سؤال محرج، ومشكل عميق يطرح عن «الإنسية المغربية»، عن أحوال بلد لا يغري جزءا كبيرا من مواطنيه بالتشبث بجنسيته، حتى وإن لم يفرطوا في هويته.
في المغرب ظاهرة تستحق التأمل، فالفقراء يحلمون بالهجرة، والأغنياء أيضا يحلمون بالهجرة.. الفرق أن الفقراء «يحركون» في قوارب الموت، والأغنياء يشترون أوراق الإقامة في الخارج، وبعضهم يشتري جنسيات دول تبيع علمها لمن يدفع. هؤلاء ليسوا فقط غير مطمئنين على راهن بلدهم، بل قلقون على مستقبله. لا يمكن أن تقفل عقول المغاربة عن المقارنة بين هنا وهناك، بين حقوق المواطن في أوروبا ووضع المواطن هنا في شمال إفريقيا. على أصحاب خطاب الارتياح المغربي والمنجزات العظيمة والأوراش المفتوحة أن يتطلعوا إلى صورة البلد في هذه المرآة، ربما يستيقظون، وربما يتواضعون شيئا ما، ويفكروا في أحوال البلد البئيسة، ليس مقارنة بسوريا والعراق واليمن والجزائر، بل بنماذج أخرى في الشمال.
توفيق بوعشرين
-حتى قط ما كيهرب من دار العرس.

التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.