بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
منذ فجر الاستقلال، لم يكن المغرب يومًا بمعزل عن قضايا إفريقيا، بل كان في صلب الدينامية التحررية التي شهدتها القارة خلال القرن العشرين، بفضل رؤية ملوكه العظماء، من جلالة المغفور له محمد الخامس، إلى جلالة الملك الحسن الثاني، وصولًا إلى جلالة الملك محمد السادس، نصره الله.
فقد آمن المغرب، قيادة وشعبًا، بوحدة المصير الإفريقي، وجسّد ذلك عبر مواقف ملموسة ودعم فعلي لحركات التحرر في مختلف بلدان القارة، سياسيًا ودبلوماسيًا ولوجستيًا. ولم تكن هذه المواقف نابعة فقط من روح التضامن، بل من قناعة راسخة بضرورة كسر قيود الاستعمار وتمكين الشعوب الإفريقية من استرجاع حريتها وكرامتها.
ويُعدّ دعم المملكة المغربية لنضال الزعيم أميليكار كابرال من أجل استقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر، واحدًا من الشواهد الخالدة على هذا الالتزام التاريخي، حيث فتحت الرباط أبوابها أمام رموز الكفاح الإفريقي، وقدّمت لهم يد العون في أحلك الظروف.
- لحظة تاريخية… جواز سفر مغربي في يد كابرال
في احتفال مهيب احتضنته العاصمة المغربية الرباط،يوم الخميس 25 شتنبر 2025 بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لاستقلال غينيا بيساو، فجّرت السفيرة الغينية لدى المملكة، السيدة فيلومينا ماسكارينهاس تيبوتي، مفاجأة تاريخية ذات دلالات عميقة.
فقد كشفت، في كلمتها الرسمية، أن الزعيم الإفريقي الراحل أميليكار كابرال، قائد حركة تحرير غينيا بيساو والرأس الأخضر، سافر إلى مقر الأمم المتحدة حاملًا جواز سفر مغربي، للدفاع عن قضية بلاده أمام المجتمع الدولي، في وقت لم تكن فيه بلاده قد نالت اعترافًا دوليًا كدولة مستقلة.
هذا المعطى النادر، الذي ظل طيّ الكتمان لعقود، يعيد تسليط الضوء على عمق العلاقة بين المغرب وحركات التحرر الإفريقية، وعلى الدور المحوري للمملكة المغربية في دعم نضالات الشعوب الإفريقية للتحرر من الاستعمار والهيمنة.
- المغرب… سند حقيقي لنضالات القارة
ما روته السفيرة الغينية لم يكن مجرّد حادثة رمزية، بل تجسيد لموقف مغربي ثابت، اتخذته المملكة منذ عقود طويلة، حيث كانت من أوائل الدول التي احتضنت مناضلين من مختلف البلدان الإفريقية، وقدمت لهم كل أشكال الدعم الممكن، إيمانًا منها بعدالة قضاياهم.
لقد شكلت الرباط والدار البيضاء وطنًا ثانيًا لعدد من قادة حركات التحرر الإفريقية، حيث وجدوا فيها فضاءً آمنًا للتحرك والتخطيط، وسندًا سياسيًا ودبلوماسيًا يُمكّنهم من إيصال أصوات شعوبهم إلى العالم.
وفي حالة كابرال، لم يقتصر الأمر على المساندة المعنوية، بل وصل حد منحه وثيقة رسمية مغربية، جواز سفر، يُخوّله تمثيل شعبه أمام الأمم المتحدة، في وقت كانت القوى الاستعمارية تعرقل ظهوره على الساحة الدولية. إنها خطوة شجاعة وذات بعد استراتيجي، تعكس مدى التزام المغرب بقضية إفريقيا الكبرى: الحرية.
- كابرال… الزعيم الذي حمل حلم القارة
ولد أميليكار كابرال في غينيا بيساو سنة 1924، وتلقى تعليمه الجامعي في البرتغال، حيث تفتّحت وعيه السياسي، قبل أن يعود إلى إفريقيا ليقود نضالًا مريرًا ضد الاستعمار البرتغالي من خلال حركة (الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر).
تميّز كابرال بكونه ليس فقط قائدًا عسكريًا وسياسيًا، بل مفكرًا ومثقفًا عضويًا، كتب في قضايا التحرر والتنمية والهوية، وألهم حركات التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية على حد سواء.
رغم اغتياله سنة 1973 قبل أن يرى استقلال بلاده بعينيه، ظل اسمه خالدًا في الذاكرة النضالية للقارة. واليوم، تضيف وثيقة الجواز المغربي بُعدًا جديدًا لقصة هذا الرجل، الذي لم تعقه الحدود الجغرافية ولا العرقية عن أن يكون صوتًا حرًا للقارة كلها.
- علاقات ضاربة في الجذور بين المغرب وغينيا بيساو
لم تتوقف العلاقة بين المغرب وغينيا بيساو عند مرحلة التحرر، بل تعمّقت بعد الاستقلال، وشهدت تطورًا نوعيًا في مختلف المجالات. فقد أصبح المغرب شريكًا موثوقًا لغينيا بيساو في ملفات التنمية، من الصحة والتعليم، إلى التكوين المهني والدبلوماسية.
وتستقبل الجامعات المغربية سنويًا عشرات الطلبة الغينيين، كما تنخرط المملكة في مشاريع تنموية ثنائية تعود بالنفع على الشعب الغيني، في تجسيد عملي لروح التضامن الإفريقي المتجذر في السياسة المغربية.
وختمت السفيرة الغينية كلمتها بهذه العبارة المؤثرة:
“التاريخ لا يُنسى… وما قدمه المغرب لبلادنا في أحلك لحظات النضال، سيظل محفورًا في ذاكرة شعبنا وقيادتنا إلى الأبد.”
- خاتمة:
إن قصة جواز السفر المغربي الذي حمله أميليكار كابرال ليست مجرد صفحة من الماضي، بل شهادة حيّة على عمق الرؤية المغربية لمستقبل إفريقيا، قارة موحدة، حرة، مزدهرة، تقودها شعوبها نحو التنمية والكرامة.
وفي وقت تتطلع فيه إفريقيا اليوم إلى بناء مستقبل قائم على التعاون والتكامل، تبقى مواقف المغرب التاريخية مرجعًا يُحتذى به، ودليلًا على أن السيادة تبدأ بالتضامن، والتحرر لا يكون إلا جماعيًا.