مي فاطمة الطنجاوية: من العجوز المتسولة إلى امرأة تبحث عن التوبة  (ملفات بوليسية)

مجتمع

سر العجوز المتسولة: قصة امرأة تختبئ وراء أسمال الماضي

في صباح يومٍ شتوي بارد من يناير 2021، كان العميد إبراهيم الحمدي، رئيس مفوضية سيدي موسى بسلا، يستعد لإنهاء مسيرة طويلة في سلك الشرطة قبل أشهر من تقاعده.

لكن اتصالاً هاتفياً غير متوقع سيقلب روتينه اليومي، ويفتح أمامه ملفاً منسيّاً يعود إلى أكثر من نصف قرن.

جثةٌ حية على قارعة الطريق

عندما وصل العميد إلى زنقة “المالقي”، وجد عجوزاً نحيلةً مغمى عليها، محاطةً بجيران حاولوا إنعاشها بالبصل.

لم تكن سوى “مي فاطمة الطنجاوية” – المرأة المتسولة التي تسكن كوخاً متداعياً في فناء العمارة.

بعد نقلها للمستشفى، قام فريق الشرطة بجمع بصماتها روتينياً، لكن ما كشفه الحاسوب كان صادماً.. الاسم الحقيقي للعجوز هو فاطمة بنت محمد العروسي، مطلوبة منذ عام 1965 بتهمة محاولة قتل زوجها في فاس!

اعترافٌ بلا ندم

عندما استعادت العجوز وعيها، واجهتها الشرطة بالحقيقة.

لم تنكر، بل قالت بهدوءٍ يخفي وراءه سنوات من المعاناة:

في غرفة التحقيق، انهمرت الذكريات كالسيل.

حكت فاطمة كيف أُجبرت على العمل خادمةً في بيوت فاس وهي طفلة، وكيف تعرضت للضرب والاغتصاب.

كيف هربت إلى الشوارع في السابعة عشرة، لتصبح “وجهًا معروفًا” في أزقة المدينة.

ثم كيف تزوجت من رجلٍ كان ذات يومٍ “ماسح أحذية” يلاحقها، قبل أن يتحول إلى دليل سياحي ثري.

لكن الزواج لم يكن نهاية المطاف. يومًا ما، فتحت باب المنزل لتجد زوجها بين أحضان امرأة أجنبية. لم تتردد في طعنه بسكين المطبخ، ظنًّا منها أنها قتلته، قبل أن تهرب إلى سلا، حيث عاشت متخفيةً لعقود تحت اسم مستعار.

المفاجأة التي غيرت كل شيء

بعد أيام من التحقيق، جاء الرد من شرطة فاس.. الزوج لم يمت، بل تعافى من جروحه، والقضية سقطت بالتقادم. لكن الأكثر إثارةً هو ما حدث لاحقًا:

عندما علمت فاطمة بأن زوجها حي، قررت العودة إلى فاس للبحث عن أبنائها الأربعة.

وفي مفارقةٍ قدرية، زار الزوج “عبد الله الشماخ” – الذي أصبح حاجًّا – كوخها في سلا برفقة ابنته “سناء”، ليجدوا أنها غادرت.

في المستوصف القريب من منزل العائلة في فاس، كانت “سناء” – التي صارت ممرضة – تعتني بعجوزٍ مجهولةٍ مصابة بغيبوبة سكر. عندما فحصت أوراقها، اكتشفت أنها أمها المفقودة منذ 56 عامًا!

لقاءٌ بعد نصف قرن

لم تتحمل “سناء” الصمت. أسرعت إلى المنزل وأخبرت والدها وإخوتها. عندها، هرع الجميع إلى المستوصف، حيث كان المشهد أشبه بفيلمٍ درامي.. رجلٌ عجوز يبكي أمام امرأةٍ شاخت، وأبناءٌ بالغون يحتضنون أمًّا لم يروها منذ الطفولة. حتى الطاقم الطبي لم يتمالك دموعه.

في تلك الليلة، فتحت فاطمة عينيها للمرة الأخيرة. همست باسم ابنتها، ثم أغمضتها إلى الأبد، لكنها رحلت وهي تعلم أن زوجها غفر لها، وأن أبناءها لم ينسوها.

العدالة التي تأخرت نصف قرن

يقول العميد الحمدي :

أما الزوج عبد الله، فما زال يحتفظ بصورة فاطمة الشابة معلقةً في غرفته، وكأنها تذكيرٌ بأن بعض الأخطاء لا تُصلحها السنون، لكن الغفران يفعل.

قصة “مي فاطمة” ليست مجرد ملفٍ جنائي مغلق، بل شهادة على أن البشر أعمق من أي جريمة، وأن الزمن قادرٌ على تحويل أقسى القصص إلى دروسٍ في الإنسانية.