سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
“ الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين”
الفيلسوف الكندي
في الحلقة الماضية، تطرقنا لنظرية المعرفة في فلسفة سبينوزا. في هذه الحلقة سنتطرق بقدر محدود من التفصيل لنظرية الفيلسوف حول الانفعالات النفسية.
العقل عند سبينوزا هو فكرة الجسد عن نفسه، كمثل وعيه بذاته، أي وعي الجسد بذاته وبمحيطه. الفكر هو مجموع الاحساسات الفكرية التي تتفاعل في هذا الجسد حسب فيلسوف الأخلاق. فالفكر أو العقل ليس شيئا مستقلا بذاته أو مستقلا عن الجسد، بل هو الوجه الآخر للجسم أو الجسد المادي، فنحن لسنا أمام وجودين، بل نتحدث عن وجود واحد نراه من الداخل عقلا ومن الخارج مادة أي جسدا، وعن عملية واحدة نراها من الداخل فكرا ومن الخارج حركة ¹. يعتقد سبينوزا أن هذا المبدأ يسري على كل شيء في الوجود. لكن إذا كان الأمر على هذا الحال، يتساءل الفيلسوف لماذا يتميز الإنسان بهذا العقل المفكر دون غيره من الموجودات في الطبيعة؟ جواب سبينوزا عن هذه الإشكالية يتحدد في البنية المادية المشكلة لكل شيء على حدا. فكلما كانت تركيبة البنية المادية أقل تعقيدا، كان بناؤها الذهني أقل تطورا والعكس صحيح. فالحَجَر هو بسيط من حيث تركيبته المادية فهو بذلك متخلف في البناء الذهني. النباتات هي أكبر تعقيدا في بنائها المادي، فهي بذلك أكثر تكورا في بنائها الذهني. الحيوان أعلى رتبة من الجميع بسبب كونه مكون من عناصر مادية أكثر تعقيدا. الإنسان هو كائن أكثر تطورا من كل باقي الكائنات بسبب كمية العناصر والتعقيدات التي تدخل في تركيبته المادية.
تطرقت فلسفة سبينوزا لموضوع الانفعالات النفسية، حيث اعتبرت هذه الفلسفة أن الرغبة هي أساس الطبيعة الإنسانية. فتعبير الإنسان عن شيء بأنه خير أو شر يكون بحسب رغبتنا بهذا الشيء أو حتى بكرهنا له. فالشيء الذي نرغب به نراه خيرا مهما كان، وما نكرهه نراه شرا مهما كان. ولا يعترف سبينوزا بانفعالات أصيلة سوى هذه الانفعالات الثلاثة: اللذة والألم والرغبة. ومنها يستنبط جميع الانفعالات الأخرى، وعن طريقها يشرحها ¹. فالحب مثلا ليس إلا اللذة مصحوبة بفكرة علة خارجية. وهكذا نرى أن من يحب يسعى بالضرورة إلى تملُّك واستباق موضوع حبه، بينما يسعى من يكره إلى إبعاد موضوع كراهيته والقضاء عليه.
بخصوص حرية الإرادة، يذهب سبينوزا إلى أن الإنسان لا يملك شيئا اسمه حرية الإرادة. فالأمر لا يعدو أن يكون رغبة داخلية تأتي على رأسها رغبة أو غريزة حب البقاء. فتصرفات الإنسان نابعة من هذه الرغبة سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر. فالإرادة هي الجهد الذي نبذله من أجل المحافظة على ذاتنا وهي تشترك مع الشهوة والرغبة في نفس الهدف وهو المحافظة على البقاء. ففي منظور سبينوزا، الإنسان ليس حرا ولا مالكا لإرادته لأنه مُسير من رغباته وخاصة رغبة البقاء التي لها علاقة حتمية بقوانين الطبيعة. هذه الأفكار ستكون ركيزة تصورات فرويد ومدرسته في التحليل النفسي.
الكائن الحر الوحيد في فلسفة سبينوزا هو من يكون سببا في وجوده، فهو العلة ولا يعتمد على شيء آخر في وجوده ولا تسيطر عليه أي رغبة خاصة رغبة البقاء أو الوجود. فمن له مسبب في وجوده هو في الحقيقة ليس حرا، فخضوعه لهذا المُسبب، يجعل هذا الأخير يتحكم فيه. وبالتالي فالجوهر المتمثل في الطبيعة وقوانينها، هو الحر الوحيد في هذا العالم حسب اعتقاد سبينوزا، لأنه هو علة ذاته ومُسبب وجوده ولا يخضع لأي أحد في ذاته ووجوده.
في الأخير نتطرق إلى نظرية سبينوزا في الأخلاق حيث يعتبر أن المعرفة هي الوسيلة الوحيدة التي توصل الإنسان إلى الأخلاق وإلى السعادة في الحياة. ويعتبر الفيلسوف أن الحب والكراهية هي نتيجة انفعالاتنا النفسية. وهي انفعالات تحتل مكانة كبيرة في فلسفة سبينوزا في مبحث الأخلاق. هذه الانفعالات تتحكم في تصرفاتنا وسلوكنا، ومَنْ تتحكم به هذه الأهواء لن يرى الأمور إلى من جانب واحد أو من زاوية هذا الانفعال سواء زاوية الكره أو زاوية الحب. لكن في رأيه بالعلم والفكر وإعمال العقل يمكن للإنسان أن يجد طريقة للتوليف بين العقل والعاطفة. وفي رأيه الشهوة في الإنسان هي عواطف جامحة ومؤثرة ولا عقلانية بالمرة. لكن نستطيع من خلال العقل أن نتحكم فيها ونسير بها إلى فضائل عقلية لكي يصل الإنسان إلى الفضيلة. فالعقل بقدرته على إدراك حقيقة أن العالَم يكمن وراءه قانون أتى منه هذا العقل ويسيره بشكل حتمي وضروري، فأيضا على نفس المنوال يقول سبينوزا، على هذا العقل أن يضع قوانين تنظم رغباته المتعددة والمتناثرة. وعندها يمكن للإنسان أن يسلك سلوكا يوازي فيه بين عقله ورغباته، وبذلك يمكنه تحقيق الفضيلة. ونُذكِّر هنا أن هذه الفضيلة هي التي كانت تدور حولها فلسفة سقراط.
التعاليق (0)